كثيراً ما نصحت أصدقائي – خصوصاً أولئك المدمنين على قراءة الروايات قبل النوم – بأن يُقلعوا عن هذه العادة السيئة. ذلك أن عواقب هذا الفعل المتهوّر – مثلما أثبتت التجربة – يمكن أن تكون وخيمة جداً. ولكي تصدقوا كلامي اسمحوا لي أن أروي لكم هذه الواقعة التي عشتها قبل أشهر:بعد يوم عمل طويل ومتعب قضّيته في مكتبي، بسبب تراكم أعمال كثيرة، عدت متأخراً إلى البيت، وأنا لا أكاد أقوى على الوقوف من شدّة الإجهاد. علّقت معطفي على المشجب، وأعددت لنفسي كأساً من الويسكي مع مكعّبات ثلج، ثم استلقيت بملابسي على أريكتي الجلدية المفضّلة.

تناولت روايةً لبول أوستر كنت قد شرعت في قراءتها قبل أيام ولم أجد الوقت لإنهائها، وبدأت أقرأ وأنا أحتسي الويسكي. غير أنني كنت أجد صعوبة في التركيز.
قرأت أقلّ من صفحة وأنا أغالب النعاس، لكن سرعان ما استسلمت للنوم.

■ ■ ■


لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائم، عندما أيقظني رنين الهاتف.
رأيت من خلال النافذة أن الوقت فجر. ظننت في البداية أن الأمر مجرّد حلم. ولكن مع رنين الهاتف الملحّ تأكّدت أنني لا أحلم.
تمطّيت بكسل في أريكتي مفكّراً في أن الهاتف، ما دام قد رنّ في مثل تلك الساعة المبكّرة وبذلك الإلحاح، فلا شك في أن أمراً خطيراً قد وقع.
وقفت متثاقلاً ثم أشعلت النور. توقّف الهاتف الموجود على منضدة في مدخل الصالون عن الرنين لبضع دقائق. ولكن عند وصولي إليه، رنّ مجدّداً ودون توقف.
_ «آلو...»، قلت متثائباً وأنا أغالب النوم.
_ «آلو...»، ردّ الصوت الآخر في السماعة.
_ «نعم»، قلت، وأنا أتثاءب.
_ «وليد سليمان معي؟».
_ «نعم! أنا وليد سليمان، ما الأمر؟ من معي؟
_ «أنا بول أوستر...».
للحظة ظننت أن في الأمر مزحة، غير أن مجرّد التفكير في ذلك جعلني أشعر بغضب شديد، ذلك أن الوقت غير مناسب للمزاح، لا سيما أنني أكاد أموت من التعب بعد يوم طويل ومُنْهِك.
حاولت التأكّد من أنني لست نائماً بأن قرصت ذراعي. ولكن يبدو أن القرصة كانت أقوى من اللزوم حيث أنني شعرت بألم شديد، وقلت «أي» بصوت عال...
قربّت سمّاعة الهاتف من أذني وأنا أقول بلهجة حازمة:
_ «أرجو أن توضح لي الأمر... فالوقت متأخّر جداً... وليست لدي أدنى رغبة في المزاح».
_ «أنا الذي أرجو منك أن تحادثني بجدية... أنا الروائي بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك»... أظن أنك قد سمعت عنها».
_ «لم أسمع عنها فقط، بل قرأتها وأعجبتني كثيراً... يشرفني أن أتلقّى مكالمة منك سيد أوستر... ولكن ألا ترى أن الوقت متأخر جدّاً؟».
_ «لا أدري إن كان الوقت متأخراً عندكم، ولكن هنا ما زلنا في الظهيرة... ثم إن ما أودّ أن أحدّثك عنه في منتهى الخطورة».
_ «أنا أسمعك...».
_ «لقد تناهى إلى علم وكيل أعمالي أنك قد نشرت كتابي «اختراع العزلة» بالعربية ونسبته إلى نفسك بعد أن أجريت عليه بعض التحويرات الصغيرة للتمويه... ولم تكتف بذلك بل إنك تحصّلت على جائزة أدبية كبرى بفضله...».
وجدتني أقهقه من شدّة غرابة الموقف الذي حُشرتُ فيه، وقلت دون أن أخفي تهكّمي: _ «صحيح أن روايتك هذه بالذات قد أعجبتني كثيراً، وأنني أجد عنوانها رائعاً... ولكن كيف خطر ببالك أن تصل بي الأمور إلى حد سرقة عمل من أعمالك ونشره باسمي!».
_ «هذا ما أكّده لي وكيل أعمالي، ولا أعتقد أن هناك سبباً يجعله يكذب».
_ «إذن، قل له إنه مخطئ تماماً، إذ يبدو أن الأمور اختلطت عليه. واعلم أن الجوائز الأدبية لا تعني لي شيئاً .. وإن تمادى وكيل أعمالك هذا في اتهامي باطلاً ودون دليل، فسوف أضطرّ إلى رفع قضية تشهير لدى المحاكم الدولية... ».
قبل أن أسمع جواب بول أوستر، انقطع الخطّ فجأة. وسمعت رنيناً متواصلاً في سمّاعة الهاتف، ثم خيّم صمت ثقيل كالرصاص زاد تلك الليلة الشتائية الغريبة وحشة.

■ ■ ■


لم أستطع النوم بعد تلك المكالمة. لقد أُصبتُ بارتباك شديد، وأحسست برغبة مجنونة في احتساء قهوة قويّة قادرة على إيقاظ الموتى، وهي رغبة جعلتني أجرجر قدميّ إلى المطبخ. عدت إلى الصالون وأنا أحمل كوب قهوة ساخنة، وجلست مجدداً على أريكتي. رحت أقضم أظافري وأنا أفكّر في ما حدث: «هل هو تأثير الويسكي؟ أم أنني صرت أرى هلوسات من كثرة التعب؟ ربما يكون ما حدث حلماً؟! لكن ذلك مستحيل، فقد سمعت صوت بول أوستر بأذني. وأنا متأكّد من صوته، فقد سبق أن سمعته يتحدّث في برنامج تلفزيوني...». في النهاية، لم أجد سوى تفسير واحد، وهو أنني من كثرة قراءة روايات بول أوستر قبل النوم، أصْبَحتْ لديّ ما يشبه الفكرة الثابتة، وحدث ما حدث.
لذلك، وبناء على كلّ ما سبق، أنصح أصدقائي – خصوصاً أولئك المدمنين على قراءة الروايات قبل النوم – بأن يقلعوا عن هذه العادة السيئة، فالعواقب، كما رأيتم، يمكن أن تكون وخيمة.
* كاتب تونسي