حين تستعاد أساطير الشاشة الصغيرة خلال حقبة تأسيسيّة، زمن الأبيض والأسود وما تلاه، يكون ذلك عادة بصفتها علامات مهمّة في سياق تاريخ ممتد، وصيرورة متصلة… فإذا بها تتحاور مع الراهن وترنو إلى المستقبل. لكن في بلد مهدد كلبنان، ممنوع من المستقبل، أهله بلا ذاكرة، من الطبيعي أن يتمسّك الناس بأيقونات الزمن الجميل كخشبة خلاص، أن يبحثوا بينها عن أحلامهم العالقة هناك، وأعمارهم الضائعة.
يا الله، كان عندنا بلد ونجوم وحكايات وتجارب وطموحات بناء ومشاريع حداثة. حتى الزعماء، على مسؤوليتهم عن خرابنا الحالي، كانوا جديرين بالاعجاب والاحترام. كانت «الميدل إيست» تنظم ٣ رحلات يومياً إلى القدس، فيما كمال جنبلاط يمنع حفلات جوني هاليداي، لأن التويست وهزّ الخصر يهددان قيمنا الاجتماعيّة (ولو يا بيك؟). كم كان العالم أجمل على الشاشة المدورة الاطراف، داخل الصندوق الكبير الذي يتصدّر الدار. كما كان علينا أن نعبث بالانتين (الهوائي) كي نضمن نقاء الصورة. لكنّها الآن مغبّشة في زوايا منسية من الذاكرة، مهما فعلنا، فيما نحن منهمكون في مشاهدة نشرة الأخبار على الآيفون بين المكتب والبيت. في مشروعه التوثيقي الذي هو ثمرة جهد حقيقي، يعيدنا زافين قيومجيان إلى مكان خرافي خارج الزمن. كأنّها حياة أخرى. في الحقيقة هو يعيد النظر بمخزونه وأدواته كإعلامي، بعدما انتقل إلى المقلب الأخر من الشاشة، لكنّه في المناسبة نفسها، يدعونا إلى مواجهة ماض محوناه، إلى مجالسة أطيافنا الحميمة. أيقونات الثقافة الشعبيّة. البيت الذي لم نعد نسكنه، الشوارع التي تغيّرت، الثياب التي بطلت موضتها، البراءة التي فقدناها... صوت أمّك الذي لم يعد يأمرك بأن تبتعد عن التلفزيون وتفتح كتاباً، فهي لا تعرف أنك على موعد عاطفي مع هند أبي اللمع التي تعيش معها قصّة حب سريّة. كل ذلك كان في الأمس. وكل تلك الصور، رغم الويلات والكوابيس التي مرّت علينا، مزروعة في وجداننا كما نكتشف ونحن نتصفّح الكتاب الصادر عن «دار نوفل»، ويوقعه زافين هذا المساء في بيروت. إنّها حكايتنا، إنّه تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي. أتذكّر هنا، رغم عدم وجود علاقة مباشرة، ذلك المعرض الفريد الذي أنجزه مازن كرباج مع لور غريّب، قبل أشهر في بيروت (غاليري جانين ربيز)، وهو تسجيل لحوار الإبن وأمّه ـــ بين فضول وحنين ـــ عبر مساءلة أيقونات الزمن السعيد.
مئة لقطة ولقطة، جمعها زافين قيومجيان برفق وصبر وشغف. صور نادرة وحكايات مهمّة، من مطلع الستينيات وولادة تلفزيون لبنان، إلى أوائل التسعينيات، مع كسر احتكار التلفزة الوطنية، تمهيداً لدخول زمن الفضائيات… «أسعد الله مساءكم»، كانت الجملة تشعرك بالإلفة والهيبة في آن معاً، هناك أشياء خطيرة ستحدث على الأرجح. ستأتي الحرب. سيغيّر العالم. لا عليك، اقترب وتفرّج على هذه القبلة الطويلة بين فؤاد نعيم ونضال الأشقر في «نساء عاشقات». سمير نصري، روبير أبي راشد، بول شاوول، وليد شميط… مادونا غازي. رضا خوري «صوت» كوكتو في دائرة الوحدة والقطيعة. كرافات جان خوري، عبسة عرفات حجازي. غرّة غاري غارابتيان. طرحة نزهة يونس، حاجب إيلي صنيفر المعقود ولدغته. بوشيت نجيب حنكش البيضاء. الـ «قنال ١١». قبعة فيلمون، ابتسامة هند أبي اللمع وجبهتها العريضة، سكسوكة عبد المجيد مجذوب. بابيّون احسان صادق. نهى الخطيب سعادة. شوشو قبل الشاربين مع العم محمد شامل. الدروندي والسلمنكي وزمرد وكوكو العتقجي في «الدنيا هيك». ابو سليم واسعد وفهمان ودرباس. طربوش أبو ملحم وشوشة إم ملحم ووعظهما اللطيف. مرشّح شاب لـ «استوديو الفن»، اسمه راغب علامة، في حضرة عضو اللجنة أنطوان ريمي. «دويك» كليشيه القروي التائه في المدينة: «يصبّحك بونجور ستنا بيروت». «جسد» رنده، وتاج جورجينا. زنود الأخوين سعادة بالمايوه الضيق واللحية المروّسة. لغة كميل منسّى الرخيمة ونظاراته. صوت ماجد أفيوني. «مطربة السيكس» مها عبد الوهاب. عينا ليلى رستم على اتساعهما. شاميّة سمير توفيق. قَصة شعر صونيا بيروتي راية حريّة السبعينيات. «اسم» مارسيل مارينا. المشوار الطويل. فارس يواكيم. محمود المليجي، شخصياً. سميرة بارودي واحسان صادق بدويا «فارس بني عياد». أول خطاب رئاسي متلفز لشارل الحلو. رياض شرارة وكابي لطيف. ماجدة الرومي و«الهدايا بالعلب» تحت رعاية سيمون أسمر. منى مرعشلي، أنطوان بارود. وسيم طبارة، غاستون شيخاني. ناصيف مجدلاني. إيفيت سرسق وسامي خيّاط. أنطوان ولطيفة ملتقى في «عشرة عبيد زغار». جان (كرباج) فلجان في «البؤساء». ريمي بندلي ما غيرها: «اعطونا السلام». وجيه رضوان، مروان العبد، أحمد العشّي. الست بدور. عازف الليل. لمن تغنّي الطيور. أخوت شاناي. جورج شلهوب وإلسي فرنينة. شيبة فيليب عقيقي. فيروز وصباح ووديع وفريد… بيليه حتماً. (أنطوان) بربر آغا على حصان أنطوان غندور… انقلاب الاحدب. الحرب. دائماً هي، ستأخذ معها وطن الأوبريت واستوديو بعلبك وبيروت. وتترك لنا ديكوراً هجيناً معولماً تحت رحمة رساميل الخليج. هذا الكتاب، لا يدّعي تأريخاً ولا تحليلاً، مجرد باقة من اللحظات. لا بد من الاحتفاظ به على رف قريب لمعالجة نوبات الاكتئاب. «أسعد الله مساءكم».