مقابل المرآة، التي تفضح تجاعيد وجهها العميقة وترهلات ذراعيها، وتتعرّف إلى مجافاة «البيكيني»، الساتر شيئاً من جسدها المنتفخ قليلاً عند البطن، خطوط الموضة الرائجة، تسرّح سامية (اسم مستعار) شعرها المبلول ببطء شديد يتسّق وعقدها السادس، غير آبهة بخط المنتظرات الطويل خلفها في حيّز النساء. تتأكد من استواء شعرها، ولا تعير انتباهاً لتأفف من هن في سنّ حفيداتها، أولئك اللاتي يتصارعن مع الوقت بدون أن يفلحن في التغلّب عليه! من ثم تمشي بخطى واثقة نحو كرسيها المريح، فتفرد جسدها الأبيض عليه، الجسد الذي لم تفلح السنوات الطويلة في تبديل لونه، على الرغم من أن ارتياد الـ«سبورتنغ» طقس صيفي لطالما التزمت به.
سامية هي نموذج من عشرات النماذج، التي ترتاد الـ«سبورتنغ كلوب» ببيروت وبدون انقطاع منذ سنوات مراهقتها زمن الستينيات. تألف المكان، حيث يصفق الموج الصخور من دون كلل، وحيث تخضّب الملوحة النسيم، وحيث الهدوء سمة، وحيث الهوية والوظيفة واضحتان، بخلاف جلّ المسابح اللبنانية، التي تستعير أجواء الليل الصاخبة ومترتباتها إلى داخل أحواض الماء منذ ساعات الصباح الأولى.
تعود حكاية المسبح المختزن بعضاً من ذاكرة بيروت إلى سنة 1953، حين رغب جورج أبو نصّار، بعد تخرجه من كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، في استثمار علومه في مشروع يبقيه متخفّفاً من أحمال البذلات الرسمية والاجتماعات الجدية المتصلة بالشركات. تزامنت فكرة الرجل، سليل حيفا الفلسطينية والمنخرط في تفاصيل «الكيان» اللبناني بعدما اتخذت عائلته بيروت مسكناً، مع طلب أحد معارفه منه تسديد دينه عن استثمار مقهى متواضع، مقابل التنازل عن الأخير له.
حين عاين أبو نصّار المقهى، لاحظ أنّه يصلح كناد للسباحة، إذ أن شاطئه الصخري يدير الظهر لتيارات الهواء، ما يجعله آمناً لممارسة الرياضات المائية. راق الموقع المتمركز في النقطة الأبعد في عرض بحر بيروت، والمترأس خليج الروشة للخرّيج الجديد، فسدّد دين قريبه، وما لبث أن تولّى وعائلته، المؤلفة من أب وأم وأخت، شؤون المكان. وحوّله من مقهى إلى مسبح متواضع يعيش من بدلات دخول الأصدقاء والمعارف. بعد حين، لمعت في رأس المستثمر المحنك فكرة إغلاق باب المسبح الخارجي وتوظيف شاب ليتولّى إسماع كل من يبغي دخول الـ»سبورتنغ» بأنّه ناد خاص، وبالتالي يستدعي ارتياده التعريف به من أحد الزبائن الدائمين، وذلك بعدما وزّع بطاقات الدخول على زملاء الدراسة وبعض الأصدقاء، فعرف المسبح رواجاً كبيراً خصوصاً من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى.

أمسى كشف خصوصية نادي السبورتينغ غاية مجتمع رأس بيروت


أحاط أبو نصار المكان بهالة، فأمسى كشف خصوصية الأخير غاية مجتمع رأس بيروت. حينئذ، تواترت الأخبار في المدينة عن «شخصيات» لم يستقبلها الـ»سبورتنغ»، وعن طلبات اشتراكات طال النظر في أمرها، ما وسم رواد المكان بالنخبوية!
رخّص مرسوم جمهوري صادر في الستينيات استثمار الأملاك البحرية، فأفاد «السبورتنغ» من 10 آلاف متر مربع!
في تفاصيل الحروب المتوالدة من أرحام لا تعرف الكمون، عرف أبو نصار كيف يسوي أموره، على وقع الرصاص المتصاعد! بدبلوماسية فائقة، استقطب إلى زوجي برك السباحة خاصته من هم في خصام شديد، إلى حدّ أن «المؤسسة اللبنانية للإرسال» أرسلت فريقاً اعلامياً، زمن الحواجز بين شطري بيروت، للتقصّي عن سبب استقطاب الـ»سبورتنغ» لأعداد متزايدة من الراغبين في الترويح عن أنفسهم والانعزال عن الخارج المعطوب، ولو لفترة!
يغصّ في نفس «الختيار»، كما يُلقّب جورج أبو نصار، بحسب رواية الابن وليد، الذي يدير المكان حالياً مع أخيه وابن عمته، كيف أن جنديين اسرائيليين امتثلا بهدوء لرغبته في منعهما من السباحة في الـ»سبورتنغ» بحجة أنّه ناد خاص، وأن مقاومته لهما لم تتطوّر إلى أبعد من ذلك.
كان أبو نصار استبق أيضاً تنفيذ رغبة الوجود السوري في تحويل المسبح إلى ثكنة عسكرية بمفاوضة الضابط المسؤول، وتوسّله ارسال فصيلة من الجيش تحرس «النادي» مساءً، وتستبدل «الشورتات» والقمصان الصيفية بالبذلات العسكرية نهاراً، فكان له ما رغب فيه، مع الإشارة إلى أن جلّ العاملين في المكان اليوم هم من عائلات الجنود.
مرّ في المكان عديد الطاقم السياسي من إقطاعيين وحزبيين وعسكريين، كملكة جمال الكون جورجينا رزق والراحلين فاتن حمامة وأحمد رمزي في أثناء تصوير فيلم في لبنان، وفريق عمل فيلم ألماني عن الجاسوسية، وأخيراً بطلات فيلم «يلا عقبالكن»...
يتحدّث وليد أبو نصار بلغة مقدّرة الإرث العائلي، وصنيع الوالد، فيقول: «هام والدي في حبّ هذا المكان إلى حدّ أن هذه العلاقة كانت مدعاة للغيرة من قبل أمّي! عندما اشتدّت وطأة الحرب أصرّ على أن نترك لبنان بمعية أمي إلى الولايات المتحدة، فيما بقي للحفاظ على الـ»سبورتنغ» الذي لم يغلق يوماً منذ تاريخ افتتاحه».
يروي الرجل، الذي تبدو آثار الشمس جلية على محياه عن خصوصية مجتمع رأس بيروت، حيث «الكوزموبوليتية» صفة واضحة، وحيث لا تعرف الأجيال المتسلسة مفردتي «نحن» و«هم»، كما يسقط حاجز الهويات اللبنانية المتنابذة.
يتحدّث مبتسماً أنه تطبّع بعادة أهالي رأس بيروت المتمثلة في القسم بــ«غربته»، بعدما انتقل إلى السكن في المتحف، مضيفاً أن الرباط مع هذه الجغرافيا يصعّب على المرء مبارحتها. يسرد أنّه لا يزال يواصل إصلاح أضرار الشتاء الفائت، مبرّراً سبب تكلفة بدلات دخول المسبح المرتفعة، وأنّه يضع نصب عينيه الحفاظ على التراث الذي يمثّله المكان، الذي يرتاده أفراد عائلته قبل سلالات الزبائن الأوفياء.
هناك، يتأكد للمرء بعد معاينة المكان عن كثب أن القطع مع الماضي ليس بمستساغ، فيما عناق الحاضر فاتر، بدون أن ينجح في كشف سبب مغالاة الشمس بدلالها في هذه البقعة من بيروت!