بغداد | انقضى العام الأول لاحتلال «داعش» الموصل، شهدت خلاله المدينة أحداثاً جساماً، ووقائع دموية. بدءاً من تغيير هيئة المدينة بالكامل، مروراً بمواصلة «داعش» بناء مؤسساته، وتشجيع مقاتليه على الاستقرار، وفرض قوانينه، وإرغام السكان على تطبيقها، بقوّة السيف، وتطرفه ضد أي شكل من أشكال المعارضة أو المقاومة. فضلاً عن بحثه عمّا يمكّنه من البقاء طويلاً، ومواجهة الخطر، المتمثل بسعي الحكومة العراقية إلى تحرير المدينة من سيطرته.هذه الأحداث خلقت العديد من الأسئلة عما يجري في الموصل، مع صعوبة العثور على أجوبة، في ظلّ عدم قدرة الصحافة على الوصول إلى المدينة، لمعرفة ما يجري، وشحّة المصادر المحلية، بسبب التهديد بالموت بتهمة «التجسس» لكلّ من يتعاون مع الفضاء الخارجي للمدينة. وما يمكن البحث عنه، هو كيف عاش الأهالي تحت وطأة الخوف طوال عام كامل؟
منذ 10 حزيران الماضي، وبعد سيطرة «داعش» المفاجئة على الموصل، نزح قرابة 100 ألف أسرة، من مختلف مناطق محافظة نينوى، إلى عدد من المحافظات الشمالية والجنوبية.

حدث ذلك بعد أيام قليلة من استيلاء «داعش» بالكامل على المدينة، ومن ثمّ إصداره أوامر شديدة الصرامة بإغلاق الطرق المؤدية إلى خارجها، ومنع الأهالي من مغادرتها، لأي سبب، باستثناء الحالات المرضية المستعصية، شرط أن تكون مزكاة من قبل طبيب، وكفيل من أهل المدينة، وبصحبة مرافق واحد فقط، مع تعهد من أسرة المريض بعودته خلال وقت محدد، وتسليمهم سند ملكية، ومستمسكات، تُصادَر إن لم يعد المسافر خلال الفترة المحددة.
يبلغ عدد من بقي في
مختلف مناطق الموصل نحو مليون ونصف مليون نسمة

يقول شهود، من داخل المدينة، لـ«الأخبار»، إن الأهالي الذين أجبروا على البقاء، ولم يستطيعوا الخروج، بعد 10 حزيران، أصبحوا سجناء معزولين عن العالم. يقول أحد مواطني قضاء تلكيف، شمال الموصل: «الجميع هنا يشعرون بالخيبة. حتى أولئك الذين أيّدوا داعش يشعرون بأنهم أمام مصير مجهول»، ويتابع ابن الـ27 عاماً، الذي أرغم على البقاء في الموصل: «هذا العام هو أسوأ عام مرّ على المدينة منذ تأسيسها. من يشعر بالأمان هم ثلة قليلة من الدواعش، ومن أيّدهم. أما البقية فينتظرون الخلاص من هذا الرعب المزمن». ويتابع شارحاً واقع الحال، حيث النقص في مستلزمات الحياة، وانقطاع الاتصالات، وفقدان المياه عن 60% من مساحة المدينة: «رأينا أحباءنا يساقون إلى الموت، لمجرّد الاشتباه في علاقتهم مع الخارج». وقد أعدم التنظيم العشرات من الضباط، ومنتسبي الشرطة، وأعضاء مجلس المحافظة، والمديرين العامّين، والعاملين في المحاكم والهيئات القضائية، ممّن بقي في المدينة. ويستمر أيضاً بملاحقة كل من له صلة بالحكومة المركزية، في السابق أو الحاضر. وبحساباتهم، فإن المطلوبين هم «كلّ من عمل سابقاً للحكومة». كذلك أعدم التنظيم آخرين بتهمة التجسس، بعدما اشتبه في تعاونهم مع الحكومة، ومدّها بالمعلومات.
ويؤكّد المواطن الموصلي أن المدينة لم تشهد، طوال الفترة الماضية، انفجار سيارة مفخخة، أو عبوة ناسفة، «لا نسمع غير أصوات قصف طائرات التحالف، وطيران الجيش العراقي، بين الحين والآخر»، مؤكداً أن «داعش لم يتأثر بهذا القصف، لأنه يجيد التخفّي، وتمويه أهداف الطائرات، فضلاً عن نقل مقارّه الرئيسية، ومخازن الأسلحة، إلى الأحياء السكنية، وبخاصّة إلى بيوت المسيحيين». ولفت إلى أن عناصر التنظيم هم الأكثر امتلاكاً للمال، «يعيش انتحاريو داعش برفاهية كبيرة. وقد حُجز جناح خاص لهم في فندق أوبروي، بعدما غيروا اسمه إلى فندق الوارثين، وهو من أفضل فنادق العراق. وهناك تقدّم لهم جميع سبل الراحة، فضلاً عن الرواتب المرتفعة».
محمد الموصلي، هكذا طلب تسميته خلال حديث مع «الأخبار»، يقول:«إن شوارع المدينة مغطاة بسواد داعش، حيث راياتهم، وسياراتهم، والزيّ الأفغاني للعناصر». ويؤكد الموصلي أن المرأة هي الأكثر تضرراً، حيث فرض التنظيم عليها ارتداء النقاب، تحت طائلة العقوبة لها ولأفراد عائلتها في حال المخالفة، «كذلك تمنع النساء من الخروج بمفردهن. كل امرأة بحاجة لمرافقة محرم إذا ما قررت الخروج»، وكذلك يعاني الشباب من حصار «داعش» لهم، وإرغامهم على الحياة وفق رؤيتهم حيث «لا تدخين، ولا غناء، ولا رقص، ولا جنس، ولا رياضة. وكلّ مخالفة تعرّض المواطن لعقوبة الجلد، أو الغرامة المالية، أو عقوبات أخرى تفرض في وقتها».
وكان التنظيم قد أصدر، في تموز الماضي، ما أطلق عليه «وثيقة المدينة»، التي تضمنت 16 فقرة على الأهالي التزامها. وبموجبها مُنع نشر وإذاعة أيّ بيان غير صادر عمّا يسمى «دولة الإسلام في العراق والشام»، وكذلك عدم رفع أيّ راية سوى راية «دولة الإسلام». كذلك منعت الوثيقة النساء من ارتداء الجلباب الفضفاض، وفرضت عليهن ترك الخروج إلا لحاجة، وفقاً للشريعة الإسلامية، إضافة إلى تحريم الاتجار بالخمور والمخدرات والدخان وتعاطيها. وحول الأوضاع الاقتصادية داخل المدينة، يقول الموصلي: «أغلب المواد الغذائية تستورد من سوريا، من طريق الخط الذي يصل المحافظة بالأنبار، ومن ثمّ سوريا. ولكن هذه المواد اليوم قليلة جداً، بسبب الأحداث الدائرة على الحدود مع سوريا، وأخيراً العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش العراقي والحشد الشعبي، لاستعادة محافظة الأنبار، بالقرب من الممرات التجارية المؤدية إلى محافظة نينوى، كالطريق الرابط بين حديثة وربيعة. وتعاني المناطق البعيدة عن مركز الموصل من شح المواد الغذائية»،
ويشرح الموصلي، أن الأسعار تختلف تبعاً لدرجة توافر المواد، حيث بلغ سعر أسطوانة الغاز 25 ألف دينار، بسبب تدني الإنتاج، وكثرة الطلب. أما اللحوم العراقية فسعرها رخيص، حيث يصل إلى 6500 دينار سعر كيلو لحم الغنم الطازج، وبلغ سعر كيلو الطحين «الزيرو» العراقي 50 ألف دينار (سعر الدولار اليوم يعادل 1400 دينار عراقي). واستولى عناصر «داعش» على جميع المباني الحكومية، ومنازل المهجّرين بعد أحداث 10حزيران، وسجلوا منازل المسيحيين، والمسؤولين، بأسمائهم. واتخذوا بعضها مقار لهم. وقد تدنت أسعار العقارات جرّاء عمليات النزوح والتهجير، «وصل سعر المنزل في منطقة الحدباء، وسط المدينة، إلى 70 مليون دينار، أو أقل، بعدما كان بحدود الـ250 إلى 500 مليون. أما الإيجار فتختلف أسعاره وفقاً للمنطقة، وتراوح من 50 ألف دينار إلى 30 ألفاً للشهر الواحد».
مسؤول في لجنة «إسناد أم الربيعين»، التي شكلت في عام 2008، داخل مدينة الموصل، لمساندة القوات الأمنية، على غرار الصحوات في الأنبار، وقد بقي في المدينة، قال لـ«الأخبار»: إن «عدد من بقي في مختلف مناطق الموصل، يبلغ نحو مليون ونصف مليون نسمة، غالبيتهم العظمى من العرب السنة، وآخرون من قوميات مختلفة، كالتركمان والكرد، ونسبة ضئيلة جداً من المسيحيين، بينما يندر وجود الشيعة، ويقدرون بعدد أصابع اليد الواحدة». وحول وجود جيوب مقاومة، أو بوادر لانتفاضة شعبية، يجيب المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه: «الذين انضموا إلى داعش بعد سقوط المدينة هم رجال أمن ومخابرات سابقين، في عهد نظام صدام حسين، وهؤلاء لديهم خبرة كافية للتعرف إلى أي شكل من أشكال المقاومة، بالاضافة إلى وجود الأجانب الأكثر تشدداً من أقرانهم العرب، والذين يجوبون الشوارع ليلاً ونهاراً لمراقبة أي تحرّك، فردي أو جماعي، ضدّ داعش. كذلك زُرع جهاز استخباراتي مكوّن من عدد كبير من الأفراد لرصد أحاديث الناس». ولفت إلى بعض الحوادث المتفرقة التي قُتل فيها عناصر من «داعش» من قبل جهات مجهولة.
أمّا النائبة عن الموصل، نهلة الهبابي، فقالت في حديثها لـ«الأخبار»: «هناك مأساة حقيقية يعيشها الأهالي، وبخاصة الأطفال والنساء. لدينا تواصل مع الأهالي، وتأتينا يومياً مئات الاتصالات تطالبنا بالتحرك لإرسال قوات لتحرير المدينة، وتزايدت هذه المناشدات بعد الانتصارات التي حققتها القوات الأمنية والحشد الشعبي في مدن صلاح الدين، وأمرلي، وجرف الصخر». وتشير الهبابي إلى أن «المؤيدين لداعش لا تتجاوز نسبتهم 30%، أما البقية فهم أناس بسطاء، تضرروا من داعش، وأجبروا على معايشتها، وهم على أمل بقدوم أي قوة تحررهم. وهذا ما نسعى إليه، حيث أجرينا اجتماعاً، قبل أسبوع، مع رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بحضور 15 نائباً من محافظة نينوى، وطالبنا العبادي بدخول الحشد الشعبي، إضافة إلى الحشد الوطني، الذي تشكل من أهالي نينوى، وكنا متفائلين بأن تحرّر نينوى في القريب العاجل».