يبقى اللغز المحيّر: كيف أن العدوّ الإسرائيلي كان يهدّد بالتدخّل في لبنان في حالة حدوث التدخّل العسكري السوري، وكانت الإدارة الأميركيّة تخشى من اشتباك سوري ــ إسرائيلي على الأرض اللبنانيّة، لكن التدخّل حصل من دون صراع سوري ــ إسرائيلي. إنّ تفاهماً ما حدث بين الطرفيْن، السوري والإسرائيلي. ليس من دلائل أنه كان هناك اتصالات مباشرة بين الطرفيْن، لكن الملك حسين كان نشيطاً بين واشنطن وتل أبيب في الترويج للتدخّل العسكري السوري في لبنان، وكانت الحكومة الأميركيّة تواظب على نقل رسائل بين الطرفيْن. الملك حسين توصّل على الأرجح إلى إتمام اتفاق بين الطرفيْن حول معادلة تدخّل تكون مقبولة من العدوّ الإسرائيلي. ولا ننسى أن العدوّ الإسرائيلي لم يوقفْ تدخّله العسكري والسياسي في لبنان حتى قبل نشوب الحروب الأهليّة، مثله مثل التدخّل الأميركي. وتزامن التدخّل العسكري السوري مع تدخّل عسكري إسرائيلي في جنوب لبنان، كذلك أباح العدوّ لنفسه الاعتداء على لبنان في أي مكان وزمان يختاره هو، تزامناً مع التدخّل العسكري السوري.
قدّم الاتحاد السوفياتي شكوى إلى أميركا حول التدخّل الإسرائيلي والحصار على مناطق المقاومة
وزار الملك حسين السفير الإسرائيلي في لندن في نيسان ١٩٧٦، وناشد حكومة العدوّ إباحة التدخل العسكري السوري في لبنان. ونقل السفير إلى النظام السوري ضمانة إسرائيليّة بأن العدوّ «يثق» بالملك حسين وسيتابع الموضوع (أي التدخل السوري في لبنان) بـ«عقل مفتوح» (ص. ١٩٣ من كتاب ستوكر). اطمأنت الحكومة الأميركيّة إلى أن التدخّل العسكري السوري لن ينسف ما تسمّيه أميركا (زوراً) «مسيرة السلام»، أي ضمان خنوع الأنظمة العربيّة نحو عدوان إسرائيل واحتلالها.
لكن الملك حسين لم يكن الحاكم الوحيد في الشرق الأوسط الذي كان يلحّ في إقناع أميركا بجدوى تدخّل النظام السوري في لبنان. فقد كان شاه إيران أيضاً متحمّساً هو الآخر لهذا التدخّل. كانت حماسة النظام الأردني للتدخّل السوري كبيرة إلى درجة أن رئيس الوزراء الأردني، زيد الرفاعي، عبّر لنائب رئيس البعثة الدبلوماسيّة الأميركيّة في عمّان عن أسفه أن التدخّل لم يحدث في وقت سابق من تاريخه. وكان الملك حسين على قناعة أبلغها إلى المبعوث الأميركي، دين براون، أن «احتلالاً وحشيّاً لو اقتضى الأمر» هو وحده الكفيل بنزع سلاح المتصارعين في لبنان. وتزامن التدخّل مع وصول سفير أميركي جديد، هو فرانسيس ميلوي (الذي تعرّض للخطف في ما بعد). ولم تخف معارضة كمال جنبلاط للتدخّل السوري، إلى درجة أنه أبلغ دبلوماسيّاً أميركيّاً أنه يفضّل أن تقوم أميركا أو فرنسا بدور الوسيط بين الأطراف المتحاربة في لبنان، وندم على معارضته قبل شهر لفكرة تدخّل عسكري فرنسي في لبنان.
وسعى حافظ الأسد إلى الحصول على ضوء أخضر أميركي صريح للتدخّل في لبنان، لكن السريّة لم تُزَل حول الوثائق المتعلّقة بالجواب الأميركي عن الطلب السوري (وإن كان يُرجَّح أن الجواب الأميركي كان إيجابيّاً). وسعى الأسد في تلك الفترة إلى اللعب على تناقضات الحرب الباردة بين الجبّاريْن، محاولاً استمالة الحكومة الأميركيّة من منظور التخويف من تدخّل سوفياتي شيوعي في لبنان. وقد نقل الملك حسين رسالة من حافظ الأسد في أوائل حزيران حذّر أميركا فيها من «تدخّل عسكري كوبي في لبنان» (وهو أرسل التحذير فيما كانت الحكومة الأميركيّة منشغلة بأمر التدخّل الكوبي في أنغولا). وتركّزت المساعي والرسائل الأردنيّة إلى الحكومة الأميركيّة على طمأنة العدوّ الإسرائيلي إلى أن التدخّل السوري هو في مصلحة العدوّ الإسرائيلي. وصرّح إسحاق رابين يومها بأنه يثني على سوريا «لأنها قتلت من الإرهابيّين في الأسبوع الماضي أكثر مما قتلت إسرائيل في العاميْن الماضييْن». لكن المخاوف الإسرائيليّة من إمكانيّة إنشاء دولة «يساريّة راديكاليّة» في لبنان لم تتبدّد، كما يظهر من المداولات الأميركيّة ــ الإسرائيليّة في الوثائق. وتوافق الطرفان الأميركي والإسرائيلي على ضرورة العمل على إنشاء محور عربي جديد يضمّ سوريا ومصر والسعوديّة (وهو المحور الذي تشكّل في زمن حسني مبارك واستمرّ لسنوات طويلة).
لكن التقويم الإسرائيلي للتدخّل العسكري السوري في لبنان لا يظهر في الوثائق التي اعتمد عليها ستوكر، بقدر ما يظهر في وثيقة من وثائق «التقرير الاستخباري اليومي» الذي تعدّه المخابرات الأميركيّة لمكتب الرئيس الأميركي كل صباح، وقد نُشرت الوثائق المتعلّقة بتلك الفترة قبل أشهر قليلة فقط. وفي وثيقة بتاريخ ١٧ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٧٦ (بتصنيف «سرّي للغاية»)، وهي تقول: «مع أن الإسرائيليّين لا يزالون حذرين حول النيات السوريّة، فإنهم لم يكونوا منزعجين من تطوّر الأحداث غير الاعتيادي وغير المتوقّع في الأشهر الماضية في لبنان. إن الشقاق بين السوريّين والفدائيّين الفلسطينيّين والتحالف التكتيكي مع المسيحيّين في الربيع الماضي كان مفاجأة فرحة للقادة الإسرائيليّين، وقلّل من الضغط الداخلي عليهم للتورّط أكثر في الأزمة. وقد كسبت إسرائيل عدداً من الفوائد من جراء الصراع اللبناني. فالانشغال من قبل الفلسطينيّين وسوريا وكل الدول العربيّة الأساسيّة بلبنان أدّى إلى: شبه وقف للغارات الفدائيّة الإرهابيّة على شمال إسرائيل، وتقليل التوتّر العسكري على (جبهة) الجولان، ومنح إسرائيل فرصة مُرحّباً بها من الضغوط العربيّة للعودة إلى المفاوضات من أجل تحقيق انسحابات تكتيكيّة، وتعميق الفصل (حتى الفترة الأخيرة) بين سوريا ومصر (خصمَي إسرائيل الأساسيّيْن)». ويضيف التقرير أن إسرائيل رأت أن مساعداتها للقوى اليمينيّة في لبنان ضبط النفوذ السوري في لبنان، وساعد على تحقيق منطقة نفوذ في جنوب لبنان. لكن المخاوف الإسرائيليّة على المدى الطويل لم تتبخّر. ويضيف التقرير أن إسرائيل ستستمر في عون الميليشيات اليمينيّة في الجنوب من أجل: دعم سيطرتها في المنطقة المتاخمة للحدود وتقوية موقعها التفاوضي في أيّة مباحثات مستقبليّة حول مستقبل لبنان وتشجيعها على طلب العوْن من إسرائيل.
وبدأ السفير الجديد، ميلوي عمله، ويبدو أنه كان شديد الاحتقار لشخص كميل شمعون (التقارير الأميركيّة شديدة السلبيّة لشخص شمعون مع تفضيل لحزب الكتائب). فقد وصفه في تقرير بأنه «مثل زعماء المافيا»، وأنه استعمل سيطرته على مرفأ جونية من أجل زيادة ثروته الخاصّة. وقال ميلوي إن شمعون لا يعير أهميّة لعواقب أفعاله، ولاحظ ميلوي أن ميليشيا شمعون سجّلت أكبر رقم قياسي في لبنان في خرق اتفاقيّات وقف النار، فيما كان هو يشغل منصب وزير الداخليّة. واقترح ميلوي على واشنطن أن تطلب من «أصدقاء» شمعون في إيران والأردن أن تتحدّث معه لتهدئته. (راجع أطروحة غير بيرغرسون غيز في جامعة أوسلو في عام ٢٠١٤ (غير منشورة) بعنوان «عرض جانبي خطير: أميركا والحرب الأهليّة اللبنانيّة، ١٩٧٥-٧٦»، ص.١١٠). وكان شمعون قد توسّط عبر كاظم الخليل (الذي كان ابنه، خليل، سفيراً للبنان في إيران) مع السفير الإيراني في لبنان، منصور قدر، كي يحصل على تأييد أميركي لترشيح شمعون كمرشّح «الحل الوحيد»، لكن الشاه رفض أن يتدخّل في الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة (ورد هذا في برقيّة أميركيّة عن لقاء بين السفير الإيراني وبين دبلوماسي في السفارة الأميركيّة في بيروت، في نيسان ١٩٧٦، وأفرج عن الوثيقة في ٢٠٠٦، وهي من ضمن المجموعة الرقميّة لـ«الأرشيف الوطني» الأميركي).
وطغت عمليّة خطف السفير الأميركي واغتياله، فرنسيس ميلوي، على بعض الوثائق الأميركيّة. وسارع السفير الإسرائيلي في واشنطن إلى إبلاغ الحكومة الأميركيّة بأن حزب العمل الاشتراكي العربي هو المسؤول عن الاغتيال (وتطابقت المعلومات الإسرائيليّة مع المعلومات الأميركيّة في هذا الشأن)، لكن كمال جنبلاط تطوّع بمعلومات من نوع آخر للمسؤولين الأميركيّة، إذ قال لهم إن وديع حدّاد هو الذي أمر بقتل السفير (لم يكن لتنظيم وديع حدّاد أي علاقة بخطف السفير واغتياله، وكانت العمليّة «بنت ساعتها»، ولم تكن مخطّطة من قبل، وهي انتقلت من يد حزب العمل إلى يد مسؤول الأمن في الجبهة آنذاك، أبو أحمد يونس، الذي أعدمته الجبهة في ما بعد بسبب تورّطه في عمليّات فساد وإجرام).
واستفادت الميليشيات اليمينيّة من توافق النظام السوري ودول الغرب ودولة الاحتلال الصهيوني على دعمهم، ما زاد من جموحهم وبدأوا حصار مخيّميْ تل الزعتر وجسر الباشا وقصفهما. وعبّر النائب اللبناني، فؤاد لحود، عن اعتراضه على العمليّة، وندّد في لقاء مع دبلوماسي أميركي بالمخطّط التقسيمي لتلك الميليشيات الانعزاليّة. ويبقى السؤال الذي حيّر الكثيرين: هل شارك النظام السوري في حصار مخيّمي تل الزعتر وجسر الباشا واجتياحهما؟ الوثائق لا تجزم في الأمر، لكن هناك إيحاءات بأن النظام كان متورّطاً في العمليّة، بناءً على هذيْن القرينيْن: ١). في ١ تمّوز، أرسلت الحكومة الأميركيّة تعميماً إلى ريتشارد مورفي في دمشق كي يبلغ الحكومة السوريّة برأيها بأن الهجوم على المخيّمات سينسف العمليّة السياسيّة. فلماذا ترسل الحكومة الأميركيّة إلى النظام السوري هذه الرسالة إذا لم يكن متورّطاً في الهجوم على المخيّمات؟ لكن كيسنجر علم بأمر التعميم وطالب بوقفه لأنه لم يرَ نفعاً لأميركا من التدخّل لوقف الهجوم على المخيّمات، وقال إن السوريّين قد ينزعجون من التدخّل الأميركي.٢). في وثيقة أميركيّة من وثائق «التقرير الإخباري اليومي» من قبل المخابرات الأميركيّة في يوم ١٢ تمّوز ١٩٧٦، يرد عن معركة تل الزعتر تفاصيل يوميّة مُعدّة للرئيس الأميركي، وفيها أن العمليّات العسكرية السوريّة ضد التحالف اللبناني ــ الفلسطيني كانت تجري بموازاة جرائم الحرب ضد مخيّم تل الزعتر وجسر الباشا. ويرد بالحرف: «فقد بدأ هجوم مسيحي في وسط لبنان ضد مواقع فلسطينيّة في منطقة جبل لبنان يوم الاثنين. ولقد شارك السوريّون في العمل (العسكري) على الأرض في محيط صوفر. ومشاركتهم في الهجوم، وهي في سياق تقارير عن استراتيجيّة سوريّة ــ مسيحيّة، يجعل احتمال انسحاب سريع من منطقة صوفر أقلّ احتمالاً». ويضيف التقرير أن «القوّات السوريّة في الشمال تحافظ على حصارها لطرابلس، وهي تستمرّ في قصف مخيّم نهر البارد». لكن وثيقة أخرى في ٩ تموز ١٩٧٦ من تقارير «التقرير الإخباري اليومي» للرئيس الأميركي (التي أفرَج عنها قبل اشهر قليلة بعد بدء هذه السلسلة من المقالات) تقول بصريح العبارة عن المشاركة السوريّة في قصف تل الزعتر ما يأتي: «لقد دعمت القوّات والمدفعيّة السوريّة الهجوم على تل الزعتر».
الوثائق الأميركيّة عن حرب السنتيْن أكثر صراحة من وثائق حرب ١٩٥٨

والدور السوري المُساند للقوّات اليمينيّة المتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي، فتحت قنوات تواصل استخباري بين النظام السوري والحكومة الأميركيّة. فقد طلبت الحكومة السوريّة من الحكومة الأميركيّة معلومات استخباريّة أميركيّة عن شحنات السلاح السوفياتي إلى لبنان (لاحظ ستوكر (ص. ٢٠٦) أن كيسنجر زعم كاذباً أن الفكرة ــ أي فكرة مشاركة سوريا بمعلومات استخباريّة أميركيّة عن النشاط السوفياتي في لبنان ــ كانت أميركيّة المصدر). وسمح كيسنجر بإرسال معلومات إلى الحكومة السوريّة عن شحنات سلاح سوفياتيّة وليبيّة إلى منظمّة التحرير في لبنان. وأثنى عبد الحليم خدّام في لقاء مع مورفي على المعلومات الأميركيّة، ووصفها بأنها «دقيقة للغاية». (ص. ٢٠٧ من كتاب ستوكر). وسُرّت الحكومة الأميركيّة للخلاف السوري ـــ السوفياتي وأرسلت برقيّات إلى الحكومات العربيّة المطيعة لإبلاغها بضرورة دعم الحكومة السوريّة. حتى الحكومة الإسرائيليّة تبلّغت مشورة بهذا الصدد، لكن الحكومة الاسرائيلية رأت أن الحكومة السوريّة بالغت في تصوير خلافها مع الاتحاد السوفياتي من أجل كسب الودّ والدعم الأميركي. لكن الحكومة المصريّة لم تخفّف من معارضتها للتدخّل السوري، لا بل إن أشرف مروان طار إلى العواصم الخليجيّة من أجل جسّ نبضها بشأن إمكانيّة تدخّل عسكري مصري في لبنان. وكان كيسنجر قلقاً من إمكانيّة تدخّل من قبل دول أوروبا الشرقيّة، وهددّ بأنه سيطلق يد العدوّ الإسرائيلي لمواجهة تدخّل كهذا.
وزادت الحميميّة في العلاقة بين النظام السوري والحكومة الأميركيّة. وقابل مورفي حافظ الأسد في مصيفه في اللاذقيّة في آب ١٩٧٦، وعبّر الأسد عن قلقه من «ثورة شاملة» في العالم العربي. وطلب كيسنجر من الأسد أن يشاور الحكومة الأميركيّة، في حال شعوره بأن سياساته تتعرّض للتهديد من الاتحاد السوفياتي. وطلب كيسنجر من الأسد بصريح العبارة أن يواصل هجومه في لبنان، وأن على النظام السوري تحقيق «النصر العسكري» في لبنان. وطار خدّام إلى الأردن كي يشكو إلى الملك حسين (ومنه إلى أميركا) أن الاتحاد السوفياتي قطع كل شحنات الأسلحة والمعدّات عنه، وأوقف حتى إجراءات الصيانة والتصليح. وطلب الملك حسين من الحكومة الأميركية الطلب من السعوديّة وإيران مساعدة سوريا، ولتوفير دعم اقتصادي أميركي. وفسّر السفير الأميركي، توماس بيركينغ، الرسائل الأردنيّة بأنها تشير إلى أن سوريا باتت مستعدّة، كما مصر بين عام ١٩٧٣ و١٩٧٥، لتغيير موقفها في المنطقة. ونقل زيد الرفاعي سؤالاً من حافظ الأسد إلى الحكومة الأميركيّة حول «إذا كان يستطيع أن يعتمد على أميركا في حال سلوك طريق أنور السادات».
ولم يكتفِ العدوّ الإسرائيلي بمواصلة تسليحه وتجهيزه للميليشيات اليمينيّة بل أغرق سفينة كانت في طرقها لتفريغ شحنة سلاح للمقاومة الفلسطينيّة واليسار اللبناني. والتنسيق السياسي بين العدوّ الإسرائيلي والميليشيات بلغ حدّ أن الحكومة الإسرائيليّة كانت تلحّ في طلب «كَنْتَنة» (إقامة كنتونات في) لبنان (وهي الصيغة التي بادر حزب «الأحرار» إلى اعتناقها ونظّر لها منظّر حزب الأحرار، موسى برنس). ولم يكن السفير الأميركي في إسرائيل يعلم (رسميّاً) بأمر التسليح الإسرائيلي للميليشيات الانعزاليّة وقال بخفّة مع آلون إنه يأمل ألّا يكون السلاح الإسرائيلي إلى لبنان أميركي المصدر (لكنه أضاف أنه يتحدّث بصفة شخصيّة فقط، أي إن الحكومة الأميركيّة لم تكن تمانع في التسليح الإسرائيلي). وأجابه آلون بأن مصدر السلاح الإسرائيلي متعدّد، لكنه ليس أميركيّ المصدر. وفي العلن، يقول آلون، فإن إسرائيل ستستمرّ في نفي تزويدها للميليشيات بالسلاح، وذلك تفهماً «لحساسيات واشنطن». وقدّم الاتحاد السوفياتي شكوى إلى أميركا حول التدخّل الإسرائيلي في لبنان وحول إغراق السفينة والحصار المفروض على المناطق الخاضعة لنفوذ المقاومة والحركة الوطنيّة. أما جواب كيسنجر فكان فحواه أن إسرائيل لا تفعل إلا «إجراءات وقائيّة».
وأرسلت الحكومة الأميركيّة بعثة دبلوماسيّة إلى جونية في منتصف آب للتنسيق مع قادة الميليشيات اليمينيّة. وذكّرهم سليمان فرنجيّة بأن السفير بافم كان قد وعد بأن أميركا ستفرغ كل ما في مستودعاتها العسكريّة (لمصلحة ميليشيات اليمين) في حال حصول «عدوان» في لبنان. وأمل القادة الموارنة في اللقاء «إزالة النفوذ السياسي الفلسطيني من لبنان» (ستوكر، ص. ٢١٠). أما سليمان فرنجيّة (الذي بات اليوم يُحسب بعد مماته على محور الممانعة)، فقد طالب بترحيل كل الفلسطينيين الذين أتوا بعد ١٩٦٩. وأخبر الوفد الأميركي في زيارة ثانية القادة الموارنة بأن الحكومة الأميركيّة لن تدعم خيارهم التقسيمي بالسلاح. لكن شمعون ألحّ في الحصول على السلاح من أجل تحقيق «نصر عسكري».
ولم يتوقّف الملك حسين عن تدخّله السرّي في الحرب اللبنانيّة. وعندما انعقد مؤتمر الرياض (الذي غاب عنه الحسين) خاف الأخير على تجاهل مصالح الميليشيات الانعزاليّة، كذلك فإنه لم يرد أن يعتمدوا بالكامل على إسرائيل، فقدّم لهم ٤٠٠ طن من السلاح والذخيرة. كذلك ازداد الدعم الأميركي في تلك الفترة. وزار القائم بالأعمال الأميركي بيروت الشرقيّة وأبلغ قادة الموارنة بأن أميركا «لا تريد أن ترى المسيحيّين مستوعبين في مجتمع إسلامي أو مُسيطرين من قبله»، وأعلمهم بأن الحكومة الأميركيّة «شجّعت دعماً خارجيّاً لهم لمنع ذلك». وفي هذا الاجتماع، عبّر كميل شمعون عن شديد تأييده لدولة إسرائيل. (اطلعتُ على الوثيقة التي تتضمّن تلخيص اللقاء من الموقع الرقمي لـ«الأرشيف الوطني» الأميركي). وهو شكر للحكومة الأميركيّة موقفها، وقال إن التعبير الأميركي عن الدعم في هذا اللقاء كان أقوى من السابق. ثم ألحّ على موقفه في تأييد إسرائيل، وقال إن «وجود إسرائيل هو أساسي لسلامة لبنان. وأنا أكرّر هذه النقطة». وطالب بطرد معظم الفلسطينيّين من لبنان، وسأل الحكومة الأميركيّة عمّا كانت ستفعله بوجود لاجئين في أميركا، وأجاب بأن أميركا كانت ستقتلهم وبأنها ستكون محقّة لو فعلت ذلك. ووافق بيار الجميّل (الذي كانت الوثائق الأميركيّة ترى فيه اعتدالاً خلافاً لشمعون الذي يوصف بالتطرّف في الوثائق) على خطّة طرد الفلسطينيّين من لبنان.
وبهذا تنتهي هذه السلسلة التي تغطّي فقط مرحلة حرب السنتيْن. نحتاج إلى المزيد من الوثائق لتغطية المراحل اللاحقة من الحرب، خصوصاً أن التورّط الأميركي ودعمهم للميليشيات اليمينيّة ولدولة العدوّ الإسرائيلي ازداد عبر السنوات، توازياً مع زيادة الدعم الإسرائيلي للقوّات اللبنانيّة بعد صعود الليكود إلى السلطة في ١٩٧٧. لكن الرقيب الأميركي لن ينشر الوثائق من دون قصّ أو قطع للحفاظ على الأسرار الأميركيّة (من العجب العجاب أن الوثائق الأميركيّة عن المرحلة الأولى من حرب السنتيْن هي أكثر صراحة من وثائق حرب ١٩٥٨).
إن تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة لم يُكتب بعد. ويحتاج التأريخ إلى الاطلاع على وثائق أكثر من دولة، لكن أميركا وإسرائيل لعبتا الدور الأكبر في إشعال الحرب (حتى قبل نشوبها) وفي تطويل أمدها في ما بعد. لم يكن ممكناً استمرار الحرب في كل هذه السنوات الطويلة من دون الإسهام الأميركيّ والإسرائيليّ في إشعال نارها، ثم في النفخ فيها ورمي الوقود عليها. والدور الأميركي لم يتغيّر: ليس هناك من صراع أهلي أو حرب إقليميّة في منطقتنا لم تشعله أميركا، ولم ترمِ الوقود فوقها. لكن كشف الوثائق عن الدور الأميركي لا يحرّك ساكناً: هناك مَن يطالب بالمزيد من الحروب الأميركيّة في منطقتنا، وهي جارية، وبمشاركة عربيّة نشطة.

ملاحظة: ستصدر هذه السلسلة في كتاب عن «دار الفرات» تزامناً مع معرض الكتاب في بيروت.