الذي يقتلنا لا يشبهنا كي نستحلفه






صنعاء | أستعيد صديقي، الحاضر دائماً، أُنسي الحاج، وأنا أعيش هذه الأيّام الحزينة والقاسية. أنظر من النافذة إلى الطائرات التي تسوّي حياتنا في الأرض، وأستعيد كلماته. أقرأ ما تركه لي وأقول: هذا قلب لا يموت أبداً. وكأنه معي ولم يذهب. بين يديّ «خاتمة» له عن الموت الجماعي أو القتل الجماعي. كأنه يحدّثنا نحن أبناء اليمن.

«الرفقة تنعش». هكذا كتب أنسي الحاج عن الذين يموتون أو يُقتلون بشكل جماعي، وكأن هذا النوع من القتل يحرم القتلة ومجرمي الحروب الكبار من آل سعود من استمتاعهم بنشوة القتل الفردي. وهم الذين لم يفرّقوا ولم يتردّدوا عن فعل كل أشكال القتل وأنواعه. هذا القتل الذي يمارسونه، مستندين لمال كثير سرقوه من جيوب الناس.
في إحدى صباحات القتل، استعدت أنسي الحاج. كنت في مكتب الجريدة، حين قامت طائرات العدو السعودي بقصف معسكر الأمن المركزي المجاور لمكتبنا. اهتز المكان الواقف فيه، إلى درجة شعرتُ معها بأن زلزالاً قد حدث في البلاد ولن يترك حياة على «قيد الحياة». شعرتُ بأنيّ سوف أخرج إلى الشارع ولن أجد أحداً من الناس. لقد كان الانفجار هائلاً وغير مسبوق. في كل مرّة أقول: هذا انفجار غير مسبوق، ليأتي الذي بعده لينسف سابقه، وكأن هذا العدوان يحاول إجبارنا على اعتياد كل هذا الموت اليومي الذي يبدو أنه لن ينتهي. وقد كان اختيار التوقيت، كالعادة، دقيقاً وهمجياً في آن. سقطت الصواريخ الخمسة التي جاءت على نحو متتابع على تجمّعات لجنود ينتظرون اجتماعاً مع قيادتهم. قصفوهم لا لشيء، إلا لحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا. لا يمكن أن تكون تلك الضربة قد استهدفت مخزناً للذخيرة، كما يقول ـ وعلى نحو دائم ذلك الناطق باسم العدوان في مؤتمراته الصحافية اليومية. لقد كان الهدف بشرياً، وبأعداد ضخمة وسهلة. اصطادوهم. اصطادوا الحياة التي كانت تنبض للتو... بطائرات أميركية قادرة ومتطورة.

في كل مرّة أقول: هذا انفجار غير مسبوق، ليأتي الذي بعده لينسف سابقه، وكأن هذا العدوان يحاول إجبارنا على اعتياد كل هذا الموت

مع هذا الانفجار، أسترجع ما قاله الناطق الرسمي باسم العدوان في الأسبوع الأول من العدوان. يومها، قال بأنهم نجحوا في تدمير ما نسبته 95% من سلاح جماعة الحوثي وصالح. وأسأل نفسي اليوم، بعد أيامٍ طويلة من العدوان، أيُعقل أن ما يفعلونه منذ ذلك الوقت هو اصطياد نسبة الـ5% المتبقية؟! لا يبدو هذا كلاماً منطقياً ولا أخلاقياً، بقدر ما يوضح أنهم يريدون أو قد تفرغوا تماماً لفعل إبادات جماعية، وهم يعتقدون أنه زمنهم. وبإمكانهم ذلك، طالما أنهم بعيدون عن أيّ مساءلة قانونية دولية. وحتى لو كان الموقع الذي ضربوه يحتوي أسلحة، كم سيكون حجمها في معسكر غالبية مساحته عبارة عن ميدان للتدريب وأماكن للنوم؟ للعلم فقط، الكثيرون من الضحايا بقوا في نومهم. ما قيمة ذلك الانتصار السعودي في تدمير تلك الأسلحة التي يتحدّثون عنها، مقارنة بحجم الأرواح التي تمّت عملية تصفيتها؟ ما قيمة ذلك؟
لا شيء. هي جريمة إبادة جماعية أخرى ستُضاف لسابقاتها من الجرائم.
أخبرتني سيفا محمد، وهي صديقة قريبة لي تعمل طبيبة في مستشفى الثورة العام ـ وهو أكبر مستشفيات البلد ـ أن لا إحصائية دقيقة حول عدد الضحايا. وأخبرتني أن عشرات الأشلاء قد اختلطت ببعضها البعض، وصارت مهمة فصلها مهمّة صعبة للغاية، ومستحيلة في أحيانٍ كثيرة. أخبرتني أيضاً بأن هناك أمهات ينتظرن أشلاء أمام المشفى. فقط لا غير.
أستعيد هنا ما كتبه صديقي أنسي الحاج عندما قال: «الذي يموت ميتة مُشتركة يفقد اسمه»... لكن اسم القاتل حاضر ويبقى في البال. يبقى حاضراً، حيث هناك جرائم حرب ضد الإنسانية، وما أكثرها. جرائم لا تسقط بالتقادم.

الحرب التي لم تترك لي شيئاً حتى ذاكرتي



كنتُ أذرف دموعاً كثيرة، وأمرض، عندما أشعر باقتراب رحلة والدي إلى الحج. هذه الرحلة التي لم يكن يتوقف عنها «راعي» البيت، مصطحباً زوجته معه، التي هي أمّي زمزم. منذ كنت طفلاً، أكره تلك الرحلة إلى السعودية، فهذه المملكة بالنسبة لي كانت أرضاً للموت، ومن يذهب إليها لا يعود. على هذا، ثبتت صورة «الأرض الحرام» في رأسي، وأنا استمع أخبار الناس الذين يذهبون لأداء فريضة الحج ولا يعودون إلى بيوتهم. فقد كان سوء تنظيم حركة الحجاج في بعض أماكن أداء الطقوس يُنتج قتلى كُثراً، من كبار السنّ على وجه الخصوص.
حينها، خلال فترة أداء تلك الطقوس الحزينة، لم أكن أفارق شاشة تلفزيون صنعاء الذي كان ينقل، عبر البعثة الإعلامية المُسافرة إلى الحج، رسائل مصوّرة يسجلونها مع حجّاج يمنيين يبلّغون من خلالها تحيّاتهم إلى الأهل في بلادهم.
ولم أكن أفارق والديَّ حال عودتهما، وأبقى معهما أوقاتاً طويلة، وأنا مبتهج بسلامتهما، وغير مصدق بأنهما قد عادا.
وكان الناس يحتفلون بدورهم بعودة أقاربهم من تلك الأرض على طريقتهم وبأداء فلكوري مُتعارف عليه وقائم إلى اليوم عبر تشغيل الألعاب النارية والغناء الشعبي والرقص. سأعرف لاحقاً أن تلك الفرحة المُعلنة بقوة في قلوب الناس لم تكن من باب تهنئة العائدين على أداء الركن الإسلامي الخامس بقدر ما كانت إعلاناً بنجاة أهاليهم من القتل. في اعام 1929، قامت مجموعة من بدو الحجاز بقتل نحو 700 يمنيّ، وهم في طريقهم إلى الحج ومّثلوا بجثثهم.
سيرافقني رهاب الحج طويلاً، ولن يتوقف بغير بلوغ والديّ عُمراً لم يعودا فيه قادرين على السفر. لكني، لم أفرح طويلاً، فطوفان الحزن الآتي من الحجاز لن ينتهي، حيث سيقرر شقيقي الأكبر الذهاب الى هناك للعمل من أجل جمع بعض المال وبناء عائلة. كان عاماً واحداً قضاه شقيقي في تلك الأرض وقضيته أنا متأرجحاً بين القلق والأرق، المصحوب بأخبار سيئة عن اعتداءات يقوم بها بعض السعوديين بحق يمنيين من أصول افريقية. ولن يتوقف أرقي إلا مع اندلاع حرب الخليج الثانية وعودة شقيقي من أرض الموت تلك. كُنت أنا الوحيد تقريباً الذي فرح باندلاع تلك الحرب.
مع ذلك، لن تنتهي سيرة السعودية في حياتي. عندما انهيت دراستي وصرت عضواً في هيئة التدريس في الجامعة، عرفت بحكاية المنح التي يقوم النظام السعودي بتقديمها لأهل المجال الأكاديمي في اليمن، ومنها رحلات حجّ وعُمرة، «خالصة» من جهة التكاليف والمصاريف والهدايا أيضاً. ولم يكن سراً، في هذا السياق، تلك الرواتب الشهرية التي كانت المملكة تقدمها عبر ما سُميّ «صندوق اللجنة الخاصة» لشخصيات رسمية يمنيّة كثيرة، ابتداء من رئيس البلاد وكبار رجال الدولة مروراً بزعماء القبائل وصولاً إلى الأكاديميين. لعلّ اليمن، في حينها، كان البلد ـ في الكون ـ الذي يسمح بالعمالة بشكل علني. وكنت أجابه تلك الرحلات والهدايا بالرفض. فلا مزاح في الأمر.
لكن، سيحدث أن يتم فصلي من الجامعة، لأنتقل بشكل كلّي للعمل في الصحافة والحصول على عضوية نقابتها، لأكون مرة أخرى في مواجهة آل سعود، وكأنهم قدر لا فرار منه. سأكتب حينها عن جريمة السعودية في منطقة خميس مشيط الحدودية.
الجريمة التي راح فيها عشرات المتسللين اليمنيين الذين أجبرهم الجوع على دخول «الأرض الحرام» بطريقة غير شرعية. يومذاك، بدلاً من القبض عليهم ومحاسبتهم قانونياً، قام عدد من رجال شرطة المملكة «الشجعان» بمحاصرة أولئك الفقراء وحرق المكان الذي اختبئوا فيه.
ولكم أن تتخيلوا تلك الجريمة. لم يعترف العدو السعودي بجريمته إلا بعد مواصلتنا الكتابة عن الجريمة وبلوغ خبرها لمنظمات دولية. علماً أن موقف إعلامنا كان مُخزياً، باستثناء جريدة واحدة وقفت مع حق المُعتدى عليهم... لتكشف حجم السُلطة التي يمتلكها السفير السعودي في الشأن الصحافي المحليّ. هذا السفير نفسه هو الذي سيذهب إلى الجامعة ليأمرهم بإيقاف راتبي الشهري، قبل أن يخبروه بأنهم قد فصلوني.
ولا تخلو نقابة الصحافيين من مرتزقة قاموا، في توقيت غريب بتكريم ذلك السفير. هؤلاء الذين لم يكونوا قادرين على رفض هدايا المملكة، ومنها هدايا السفر لتعلّم مهنة الصحافة والنزاهة وأشكال وطرق التعبير الديمقراطية في صحف المملكة! وهو أمر غريب تماماً. نحن الذين لدينا صحافة تمتلك أدوات نقد رئيس الجمهورية نذهب إلى بلاد لا يزال الصحافي فيها لا يقدر على الحديث عن «سمو الأمير» بدون مفردة «سيديّ».
منتصف الأسبوع الفائت قامت طائرات العدوان السعودي بقصف الجامعة التي كان لي معها عشر سنوات من الشغل والذكريات الحلوة. انتهى كل شيء بالنسبة لي. لم تترك الحرب لي شيئاً، حتى ذاكرتي قامت بقصفها.
لقد رفضت مراراً الذهاب الى «الأرض الحرام»، ولكنها جاءت هي لزيارتي على شكل طائرة تقتل الحياة كلما استطاعت إليها سبيلاً.

ونحن أيضاً نحب الحياة



«يهطل» علينا القتل من طائرات العدو السعودي في كل ساعة. نعرف أننا سنموت في توقيت ما يوماً ما، فتلك الطائرات لا تحدّد هدفاً. المهم أن تقتل، ولا فرق بين مدني وعسكري. أصبحنا مشاريع ضحايا، أو لنقل منتظرين لموتنا المُعلن بشكل مُسبق، وإن كان التوقيت غير محدّد. لقد أعلن الناطق باسم العدوان أن كل الأماكن صارت مُستهدفة. لكن، مع ذلك ما زلنا نبتسم. على الأقل، أنا أبتسم، وإن كنت من النوع الذي لا يبتسم بسهولة. لقد أتى هذا العدوان وهذه الحرب ليجعلاني مُبتسماً طوال الوقت، وأنا أرى في كل يوم ابتكاراً يمنيّاً جديداً ومقاومة في وجه القاتل، من أجل الحياة.
فلنقل مثلاً، إننا اخترعنا وسيلة لتحريك «خطوات» الحياة، لإنقاذها من حالة الموت السريري التي كانت ستحل عاجلاً أم آجلاً. وهذه الصورة واحدة من حالات المقاومة التي اخترعها الفقراء في مواجهة الحصار المفروض منذ ثلاثة أشهر براً وبحراً وجواً، حيث لم يعد ممكناً دخول أية مادة نفطية أو مشتقاتها، يضاف إلى ذلك جنون أسعارها في السوق... إن وجدت. هذه الملاحظة الأخيرة، دفعت بصاحب إحد الباصات إلى استعمال عبوات الغاز المنزلية في تسيير حافلته لتحصيل لقمة العيش. لا أكثر من ذلك ولا أقل. وسيعتقد الناظر إلى هذه الصورة أن هذه الحافلة تقوم بعملية نقل عبوات غاز منزلية من مكان إلى مكان. لكنّها في الحقيقة ليست كذلك أبداً. هذه العبوات ما هيّ إلا «قلب» هذه الحافلة، حيث تمّ تحويل الغاز المنزلي، المتوفر إلى حدّ معقول في السوق، إلى «القائم» بدور البنزين. وقد تمّت العملية بنجاح، وصارت الحياة في البلاد تسير … على الغاز.
مع ذلك، يمكن الحديث هنا عن الموت الموازي لهذا الابتكار في سياق القتل السعودي المُعلن علينا. لنتخيّل فقط حجم الكارثة المُحتمل وقوعها في حال حصول حادثة تصادم بين حافلتين، أو بسبب سيجارة. كيف سيكون شكل الموت عندها؟ لا أحد يمكنه تخيّل هذا القتل، ولكن المهم الآن أنه لم تُسجّل حالة انفجار واحدة منذ بدء استخدام هذا الابتكار اليمني. وليكن الله في عون المبتكرين.
شخصياً، أنا المُصاب برهاب عبوات الغاز المنزلية. مع ذلك، تأقلمت مع اختراعات الفقراء، كغيري. فهي تتيح لي تسهيل حركتي واستمرارها والحفاظ على علاقتي مع الناس.
نعم، الحياة غالية. لكن الموت قد صار يأتينا بكل أشكاله البري والبحري والجوي ـ وإن كان صار سهلاً بالنسبة لنا لكثرته ـ لقد تغيّرت نظرتنا لكثير من الأشياء بعد العدوان السعودي وصار أمر الاستمرار في الحياة بأية وسيلة كانت هو غايتنا وهدفنا، وللموت أو القتل السعودي في حقنا أن يأتي براحته. لم يتوقف هذا الابتكار عند حدود العربات وطريقة تسييرها، فقد اجتاح كل شيء تقريباً له علاقة بالطاقة التي حُرمنا منها، وكادت أن تجعلنا في حالة قطيعة مع العالم وما يحدث فيه: تشغيل مولدات الكهرباء مثلاً في محلّات الانترنت. لا تزال هذه الأماكن تعمل عن طريق هذه الوسيلة، وحتى أوقات متأخرة من الليل ويتم إيقافها احتراماً للبيوت المجاورة كي يستطيع أهلها الخلود إلى نومهم... على أن تواصل عملها في اليوم التالي، لنكمل نحن فعل تواصلنا مع أخبار العالم وإرسال ما نكتبه عن حياتنا المتأبطة بخيط رفيع يفصلنا عن موتنا.
شكراً لهذا الابتكار الذي أعاد علاقتي مع الحياة ونجح في إعادة الابتسامة إلى وجهي، وأنا الذي لم أكن أبتسم.