فقط في لبنان يُمكن أن تختفي المتاريس فجأة بين الأفرقاء السياسيين، ويرتسم مشهد جديد يلامس حدود السريالية. صورة لبنان بعد انتخاب العماد ميشال عون هي غيرها ما قبل إنهاء عهد الفراغ. فجأة طويت سنوات بأكملها من الطحن السياسي والإعلامي، كان أساسه الهجوم على تحالف فريق الثامن من آذار مع سوريا وايران، والتأكيد على عدم الرضوخ لرغباته. فمكوّنات ما كان يُسمى فريق الرابع عشر من آذار، التي كانت تعتاش يومياً على بيانات مناهضة للنظامين السوري والإيراني، متّهمة كل حلفائهما ــــ ومن ضمنهم الجنرال ميشال عون ــــ بتسليم البلد للسياسة الإيرانية، لم تُصدر بياناً واحداً مندّداً بمشهد قصر بعبدا أمس، حيث استقبل الرئيس عون كلاً من وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وموفد الرئيس بشار الأسد منصور عزام. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى فحوى «التسوية» التي ساهمت في انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، ودفعت كل المناهضين لسوريا وايران إلى التزام الصمت! مصادر مطلعة أكدت أن اللقاء بين عون وعزام «كان إيجابياً جداً، وتم خلاله التأكيد والتشديد على عمق العلاقة بين الرئيسين». وأشارت إلى أن «الرئيس عون استفهم من ضيفه عن المجريات الميدانية في سوريا، وأبدى اهتماماً كبيراً بها، وسمع منه تطمينات بشأنها».
تكتل التغيير والإصلاح ينشئ "حكومة ظل" لدعم العهد وفريقه الوزاري
أما ظريف الذي التقى عون على رأس وفد سياسي واقتصادي رفيع المستوى، فقد رأى أن «ما ورد من كلام في خطاب القسم يدل على عمق النظرة السياسية الموجودة لدى عون، التي تضع الإصبع على الجرح وتدل على المخاطر التي تهدد كل دول المنطقة». كذلك التقى ظريف نظيره الوزير جبران باسيل الذي «شكر إيران على مساعدتها في مقاومة إسرائيل»، وأكد أننا «معنيون سوياً في مواجهة الإرهاب الذي يتغلغل في المنطقة».حكومياً، تستفيق البلاد كل يوم على جديد مشاورات الحراك الحكومي، التي يقودها الرئيس المُكلف سعد الحريري. وعليه، تتّجه الأنظار نحو شكل الحكومة المنتظرة، وما إذا كان سيلتزم بمبدأ الوحدة الوطنية التي وعد بها الحريري بعد تسميته، وكذلك العناوين العريضة التي سيتضمّنها البيان الوزاري لحكومة العهد الجديد. فُتح باب بازار الحقائب الوزارية على مصراعيه، وأكدّت مصادر مطلعة على أجواء النقاشات النيابية أنّ «كلّ ما نُشر في الصحافة حول توزيع المقاعد الوزارية والأسماء والحصص غير دقيق»، إذ إن أي فريق سياسي لم يرشّح حتى الآن أي اسم لديه لتولّي حقيبة وزارية، باستثناء النائب وليد جنبلاط الذي طالب بتوزير النائب مروان حمادة. وفيما بات بقاء الوزير باسيل على رأس الديبلوماسية اللبنانية شبه مؤكد، أشارت المصادر إلى أن «الرئيس المكلف لم يحدّد بعد من هم وزراؤه في الحكومة»، علماً بأن «لديه رأياً إيجابياً بوزير الداخلية نهاد المشنوق الذي مثّل تيار المستقبل بشكل جيّد». ولفتت المصادر إلى أن عون يحاول مع الحريري إقناع الكتل بترشيح 3 أسماء لكل مقعد وزاري ليختارا منها واحداً، لكن دون ذلك رفض غالبية قوى الائتلاف الحكومي. يبقى القاسم المشترك بين معظم الكتل النيابية هو رغبتها في الحصول على وزارة المال. فحركة أمل كانت واضحة حين أكدت أنها «تريد المالية وكل الحقائب الأخرى قابلة للنقاش». لكن شركاء بري في المفاوضات يرون أن «اتفاق الطائف لم ينصّ على أن المالية محسومة للطائفة الشيعية». وبحسب المصادر، فإن «التيار الوطني الحر أيضاً طالب بالحصول على وزارة المالية». وماذا يريد سمير جعجع؟ تجيب المصادر متهكّمة «شو ما بدو سمير جعجع؟ ما يقوله نوابه في الإعلام يقولونه في النقاشات الداخلية أيضاً، يريدون وزارة المال». على الرغم من ذلك، تتوقع المصادر أنّ الكل في النهاية «سيتنازل عن هذه الحقيبة لمصلحة حركة أمل»، وهي ترى أنّ الحريري «غير ملزم بالموافقة على اتفاق لم يكن جزءاً منه»، في إشارة إلى إعلان النوايا بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ومطالبة الأخير بنصف عدد المقاعد الوزارية المسيحية. وحول الحركة الأخيرة للقوات اللبنانية، قالت مصادر قريبة من معراب لـ«الأخبار» إنه «خلافاً للأجواء التي تشير إلى أن القوات غير مرتاحة للمفاوضات حول الحكومة، بدليل زيارة جعجع للرئيس الحريري، واستقباله أمس أمين سرّ تكتّل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان، فإن جعجع لبّى دعوة الحريري الى العشاء، وأن الأجواء كانت إيجابية، وتم خلال اللقاء استعراض الأفكار المتداولة لتشكيل الحكومة، وأنه مع نهاية الأسبوع سيظهر التصور إلى العلن».
الحريري يقود معركة استباقية مع المصارف لإبقاء رياض سلامة في منصبه
أما في ما يتعلّق بزيارة كنعان لمعراب، فقد قالت مصادر التيار الوطني الحر إنه «حصل تبادل للأفكار، وقد وضع كنعان الرئيس عون والوزير باسيل في أجواء الاجتماع»، وأبرزها أن «القوات لا تزال مصرّة على حصولها على حقيبة سيادية. وبما أن الطرفين السنّي والشيعي سيتمثلان بوزارتين سياديتين، فكذلك يجب أن يتمثل الطرفان المسيحيان بوزارتين سياديتين أيضاً»، علماً بأن جعجع كان قد قال عبر تويتر أمس إن «أقصى اهتمامه في الوقت الحاضر هو نجاح العهد الجديد». وفي هذا الإطار، لفتت مصادر مطّلعة على أجواء اللقاء بين جعجع وكنعان أن «العمل جار على خط التأليف وتذليل العقبات، مع إمكان حصول لقاءات واتصالات في الساعات المقبلة». وأشارت إلى أن «تصوير الإشكالية على أنها في مكان واحد غير صحيح. هناك تداخل في المطالب بين مختلف الأفرقاء، ما يتطلب جوجلة جدية للمعالجة، لناحية الحقائب وعدد الوزارت التي تطالب بها كل كتلة». أما عن الكتائب، فقد أشارت المصادر إلى أنه «قد لا يشارك في الحكومة في حال عُرضت عليه حقيبة واحدة».
من جهته، بدأ تكتّل التغيير والإصلاح البحث في إنشاء ما يشبه «حكومة الظل»، أو تكليف فريق عمل مختص بكل وزارة (الاقتصاد، المالية، الاتصالات، الأشغال، الطاقة، البيئة، الصحة، الدفاع، الداخلية، التربية والثقافة)، ويمكن لكل فريق أن يكون متابعاً لعمل أكثر من وزارة في آن واحد، إضافة إلى ملفات غير مشمولة بالوزارات، كملف الانتخابات واللامركزية. وتحقيقاً لهذا الهدف، لا يزال البحث جارياً، ومن المتوقع أن تُناقش مسوّدة أولى في اجتماع تكتل التغيير والإصلاح اليوم. وتقول مصادر متابعة إن «انطلاقة العهد يجب أن تكون مدعمة بفرق عمل في كافة المجالات، وخاصة أن سقف خطاب الرئيس عون الأحد الماضي كان مرتفعاً، وكل فشل أو نجاح سيُحتسب للتيار الوطني الحر، وأنه لا بد من المحافظة على زخم العهد الجديد الذي رافق انتخاب عون في ظل التحديات الاقتصادية والمالية»، وبناءً عليه «ستجري الاستعانة في تأليف هذه الفرق بتكتل التغيير والإصلاح، وبطاقات موجودة في التيار الوطني الحر». وفيما يتوقع أن يفتح الرئيس عون معركة تغيير مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة وشورى الدولة»، علمت «الأخبار» أن «الحريري سيقود معركة استباقية مع المصارف لبقاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في منصبه، لعلمه بأن هناك بعض القوى التي ستقترح بديلاً منه، ولذا سيخوض المعركة إعلامياً وسياسياً لرسم خطوط حمراء تمنع المس بسلامة».