لا يشذّ سليم الجبوري عن النمط السياسي الذي أنتجته حقبة ما بعد الإحتلال الأميركي للعراق؛ نمطٌ عماده الرئيس أن تقول ما لا تفعل، وأن تفعل ما لا تقول، إلّا أن لرئيس مجلس النوّاب العراقي قدرات متميّزة على هذا الصعيد. هو القانوني المسيّس، المحدّث اللبق، المعارض "الضعيف" الهادئ، صاحب الرسائل الخادشة المغلّفة بـ"التهذيب"، يتقن اللعب على الحبال جميعها، تحت ستار ثلاثة أقانيم أضحت المحدّدات الرئيسة لخطابه: إحترام القانون، اللامركزية، ونسج علاقات جيّدة مع دول الإقليم. هذه المرونة أتاحت له حفظ موقعه في العملية السياسية غير مرّة، بعدما كادت مضاعفات الصراع تطيحه.
أتاحت المرونة للجبوري حفظ موقعه في العملية السياسية غير مرّة
في عام 2014، ومع بروز تطلّع رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إلى ولاية ثالثة، وجد نائب الأمين العام لـ"الحزب الإسلامي العراقي" (فرع الإخوان المسلمين في بلاد الرافدين) الفرصة سانحة لبلوغ رأس السلطة التشريعية. حدث ذلك على الرغم من أن الجبوري كان، حينها، مطلوباً للقضاء العراقي بـ14 تهمة متعلّقة بـ"الإرهاب". تهم جاءت على خلفية ما يُقال إنّه تورّط الرجل، ومعه نائب الرئيس السابق، طارق الهاشمي، في تفجيرات استهدفت عدّة محافظات، وعمليّات اغتيال راح ضحيّتها مواطنون، ولا سيّما في الخالص والمقدادية، فضلاً عن "عمليّات تهجير طائفي في محافظة ديالى". يُضاف إلى ما تقدّم أن سليل عشيرة الجبور، إحدى أكبر العشائر العراقية، تولّى، من خلال رئاسته لجنة حقوق الإنسان في برلمان 2010، مهمّة الدفاع عن شخصيّات "متورّطة في الإرهاب"، مطالباً يإيقاف قرارات إعدامها، وداعياً إلى تدخّل دولي للحيلولة دون تنفيذها بدعوى "طائفيّتها".
على مدار أربع سنوات، امتدّت مظلّة الحماية على رأس الجبوري من عواقب تلك الإتّهامات، بفعل الحظر الذي فرضه رئيس البرلمان السابق، أسامة النجيفي، على مناقشة رفع الحصانة عن "الموصومين بالإرهاب". حماية سرعان ما استحالت شبه براءة عام 2014، مع تبلور صفقة تقضي بإسقاط التهم الموجّهة إلى الجبوري وترشيحه لرئاسة مجلس النوّاب، مقابل إقناعه البرلمانيّين "السنّة" بتيسير حصول المالكي على ولاية ثالثة. لم يحصل الأخير على مراده، لكن المحكمة الإتّحادية وافقت على تبرئة الجبوري، ليعود من عمان ويقود الدفّة البرلمانية لأربع سنوات مفترضة.
اليوم يتكرّر السيناريو نفسه على ما يبدو. بعدما كاد "غسيل" وزير الدفاع العراقي السابق، خالد العبيدي، يلفح أصغر رئيس للبرلمان العراقي في تاريخ البلاد الحديث، تدخّلت السياسة مجدّداً لتنقذه. لم يتطلّب الأمر أكثر من ثلاث ساعات لتفرج السلطة القضائية عن الجبوري وتغلق الدعوى بحقّه لـ"عدم كفاية الأدلّة"، على الرغم من ضخامة الملفّات التي "فضحها" العبيدي في البرلمان، والتي تطلّب نقلها من مكتبه مركبة "بيك آب". (حُكي يومها في بعض الأوساط عن "فيتو" سياسي، من قبل رئيس ائتلاف "دولة القانون"، "فرمل" مقاضاة الجبوري، منعاً لأيّ تحوّلات يمكن أن تعرقل تسقيط وزراء حيدر العبادي).
ينفي الجبوري، راهناً، أيّ تحالف مع المالكي، مشيراً الى أنّه لا يميّز العلاقة به اليوم، إلّا أنّها تمرّ في "حالة من التفاهم". تصريح ينبئ بأن زعيم قائمة "ديالى هويّتنا" يحرص على إبقاء الخطوط مفتوحة باتّجاه زعيم "الدعوة"، كما باتّجاه بقية "الأطراف الشيعية"، استعداداً للإستثمار في تنافس "شيعي ــ شيعي" محتمل في الإنتخابات البرلمانية المقبلة. هكذا يحفظ الجبوري هامشاً يتيح له الإنزياح للمالكي، أو الركون لخصوم الأخير، طبقاً لما ستؤول إليه الخريطة السياسية بعد طيّ صفحة "داعش" في العراق (يُذكر هنا أن الجبوري يكنّ سخطاً مكتوماً على المالكي، الذي يُعدّ شريكاً في جلسة 14 نيسان/أبريل الماضي الشهيرة، حيث صوّت مجلس النوّاب على إقالة رئيسه، بحضور أكثر من 170 نائباً).
يدرك رئيس البرلمان أنّه قد يكون للحشد دور في مستقبل العراق القريب

في ذلك السبيل، يشتغل رئيس البرلمان على غير مستوى. يتحاشى الرجل مهاجمة "الحشد الشعبي" أسوة بما يفعله آخرون. أقصى ما يبلغه سقفه هو الدعوة إلى حماية المدنيّين، مع اعتبار عدم دخول "الحشد" إلى مركز الموصل ناتجاً من "إحساسه بالمسؤولية"، وإشادة بـ"دوره المساند" في المعركة؛ علماً أنّه هو نفسه من كان إلى أشهر قليلة يصف "الحشد" بـ"الميليشيات الطائفية"، داعياً إلى إبقائها خارج الموصل. يدرك أستاذ القانون في جامعة النهرَين وجامعة ديالى، على ما يظهر، أنّه قد يكون لـ"الحشد" دور مقرّر في مستقبل العراق القريب، وخصوصاً مع التفاف جميع الزعامات "الشيعية" حوله. وربّما أرسلت صورة مقتدى الصدر، الذي كان ينعت "الحشد" بـ"الوقح والهمجي"، متوسّطاً أبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي، رسالة إلى البعض بأن الوقت حان لدخول مربّع المناورة.
على خطّ مواز، لا يبدي الجبوري تأييده مشروع "النجيفيَّين" لتقسيم نينوى بعد تحريرها. بديله مشروع "مزوّق" يصبّ في اتّجاه "كانتوني" غير صدامي: الحفاظ على الحدود الإدارية لنينوى مع تحويلها إلى إقليم، على أن "تحصل عملية تفاهم مع الأطراف السياسية والمكوّنات الأخرى ضمن دولة واحدة". مقترح يعتقد رئيس البرلمان أنّه يحقّق له ثلاثة أهداف بضربة واحدة: من جهة يمنع تألّب الأطراف عليه في لحظة حسّاسة بوصفه من دعاة التقسيم؛ ومن جهة أخرى يسجّل نقاطاً في ملعب منافسيه "السنّة"، لكونهم "فشلوا في إثبات وجودهم وتسويق نظريّتهم، وآن الظرف ليتنحّوا جانباً، ويجري البحث عن أطراف تتولّى زمام المبادرة ضمن إطار المحافظات على نحو واضح"، وفق تعبير الجبوري؛ ومن جهة ثالثة يضمن نصيباً وازناً ضمن مشروع محاصصة طائفية جغرافية، بعيدة عن "الفدرلة العلمية"، يتقاطع في بعض أقانيمه مع تطلّعات دول إقليمية في عراق ما بعد "داعش".
تلك الدول لطالما "حجّ" إليها السياسي المتحدّر من قضاء المقدادية في ديالى مع زملائه، للتباحث في "مستقبل السنّة في العراق". آخر تجلّيّات ذلك كان في أيلول/سبتمبر 2015 عندما شارك الجبوري، على نحو غير معلن، في مؤتمر نظّمته الدوحة لقوى وشخصيّات "سنّية" عراقية بعضها مطلوب للقضاء، دونما علم بغداد. مشاركة ظهّرت وجهاً من وجوه علاقة متمّيزة تربط رئيس مجلس النوّاب بكلّ من الدوحة وأنقرة وواشنطن، إلّا أنّها لا تحول دون فتحه خطوطاً باتّجاه طهران. في أواخر آب/أغسطس من العام الجاري، قام ذو الأعوام الخمسة بعد الأربعين، بزيارة إيران والتقاء كبار مسؤوليها، حيث أكّد أن "إيران كانت دائماً إلى جانب العراق حكومة وشعباً في مواجهة الإرهاب، وأدّت دورا مهمّا جداً في هذا المجال". فُهم، آنذاك، من الزيارة والتصريحات أن الجبوري يريد الاستحصال على دعم دولة إقليمية ذات نفوذ في العراق، في مواجهة من يحاولون نزع الشرعية عنه.
اليوم، ينتهج الرجل النهج نفسه. يجتهد في تثمير علاقاته الداخلية والخارجية تعزيزاً لرصيده السياسي قبيل الإنتخابات، ويسعى في تسويق رؤية جغرافية إدارية ترضي نزوعه لـ"الإقتسام" الطائفي وتتماشى ورغبات حلفائه الإقليميّين. كلّ ذلك تحت مظلّة "متّزنة" لا تكثّر الأعداء ولا تخسّر الأصدقاء، ولعلّ هاهنا... مكمن الخطورة.