يتعامل الوسط السياسي مع الموقف السعودي من الانتخابات الرئاسية بكثير من الحذر، في انتظار بلورة واضحة اكثر للاتجاه السعودي حيال المستجدات الاخيرة المتعلقة باحتمال اعلان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ترشيح رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، لكن الحذر لا يلغي ان سياسيين من عارفي السعودية ورؤيتها للبنان يقرأون في توجّهها تطورا يتعلق بالنفوذ السعودي وتعامله مع المستجدات الاخيرة. لا شك في ان السعودية سلّمت، منذ وقت، بالنفوذ الايراني في لبنان، الذي حافظ في السنوات الاخيرة على مصالح ايران فيه، وبأن حزب الله تمكن من فرض ايقاعه على الحياة السياسية بفعل الاستراتيجية الايرانية. هذا التسليم قابله تراجع النفوذ السعودي من خلال تدهور وضع تيار المستقبل، منذ ان ترك الحريري رئاسة الحكومة، وغادر لبنان، وصولا الى الانقسامات المتتالية في بيت المستقبل، وتراجع شعبية التيار جماهيريا لمصلحة خصوم الحريري، سواء كانوا من اهل البيت ام من خارجه. وبفعل هذا التدهور الذي تراكم في السنتين الاخيرتين، ولا سيما مع الحالة التي شكلها الوزير اشرف ريفي، خفّ تأثير السعودية المباشر كثيراً في السياسة اللبنانية الداخلية.
ما يحصل ولو لم يصل الى ترشيح عون بدأ يؤتي ثماره لجهة استعادة الرياض بعض حضورها

حين رشح الحريري رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، بدا المشهد السعودي ضبابياً، في ظل مواقف متناقضة بين المباركة الملكية لمبادرة الحريري والرفض الكامل لمجيء فرنجية رئيسا. ظهر الموقف الاكثر انسجاماً مع مفاعيل الترشيح وما آل اليه، في ما عبّر عنه لاحقاً السعوديون انفسهم بأن الرياض باركت ترشيح فرنجية حين اعتقدت ان ثمة اجماعا لبنانيا عليه، وحين لم تلمس هذا الاجماع تراجعت وتركت الحريري يواجه وحيداً عاصفة خياره. في خضم الانقسامات الداخلية والانشقاقات وتعدد الآراء والتوجهات داخل المستقبل، وتراجع نفوذ الحريري وبروز شخصيات سنية مناوئة له، خرجت السعودية من معمعة اتفاق باريس وترشيح فرنجية، بـ "خسارة" اضافية لم تألفها سابقا، مع احد ابرز حلفائها المسيحيين من قوى 14 آذار اي القوات اللبنانية، التي تطورت ايجابا علاقتها بها في السنوات الاخيرة، اضافة الى عدم رضى الشارع المسيحي والتيار الوطني الحر الذي لا تربطه بالرياض اساسا علاقة ود، لكنه تضاعف نتيجة اعتماد الحريري خيار فرنجية وعدم التراجع عنه رغم رفض التيار والقوات له.
لكن التطور الاخير المتعلق بفتح باب الاحتمالات على ترشيح الحريري لعون، الذي بدا بمثابة جس نبض، قبل الاقدام على الخطوة الاخيرة، اعاد الى السعودية ما فقدته في الاشهر الاخيرة، اي علاقتها بالشارع المسيحي عموما. فالرياض بموقفها المتروك على احتمالات مفتوحة، ومنها عدم رفض معلن لمجيء عون، حصلت مسبقاً ــــ ولو لم يصل عون الى قصر بعبدا ــــ على اول اشارة ايجابية تتعلق بعلاقتها مع القوى المسيحية. فترشيح الحريري لعون رئيساً يعيد وصل ما انقطع مع المسيحيين، ويسحب من حزب الله ــــ ومن خلفه طهران ــــ ذريعة التوتر السعودي مع الشارع المسيحي، ويرمي الكرة في ملعب ايران نفسها التي لم تسارع الى التقاط الفرصة لانتخاب عون. فان لم يتبدل شيء في المشهد السياسي بين ترشيح فرنجية وترشيح عون، فان امراً اساسياً دخل على الخط هو نظرة القوى المسيحية الى السعودية.
من جهة اخرى، تصيب السعودية من جراء احتمال حصول تسوية رئاسية – حكومية عصفورين بحجر واحد، لأن تسمية الحريري رئيسا للحكومة، تجعلها تؤمن نفوذها "الرسمي" عبر الحكومة، لكن لا يعني ذلك انها ستتخلى عن معارضيه الذين برزوا اخيرا وأبقوا موقفهم المعادي لحزب الله. وبذلك لا تفقد امساكها بالشارع السني من خلال العلاقة المباشرة على الارض مع خصوم الحريري سواء كانوا من وزن ريفي ام من خلال جمهور لم يعد يجد في توجهات المستقبل ما يأمله.
ما يحصل حتى الآن ــــ ولو لم يصل ترشيح عون الى خواتيمه ــــ بدأ يؤتي ثماره لجهة استعادة الرياض بعض حضورها مقابل ما تعتبره نفوذاً ايرانياً، بدليل تبدل المزاج الشعبي العوني مثلاً حيال خطوة الحريري، وبدء الانتقادات الداخلية ضمنا لحزب الله وعلنا لحلفائه. من هنا تصبح الكرة، بالنسبة الى السعودية وحلفائها، في ملعب ايران وحزب الله اللذين لا يدفعان في اتجاه تسريع الخطوات الرئاسية. وما يثير تساؤلات سياسية يكمن في تلمس موقف ايران الحالي التي تدرس الارتدادات السلبية والايجابية للتطور الرئاسي الاخير، واعادة حساباتها اليوم في ما يتعلق بالتسوية المحتملة، وتحديد خياراتها المستقبلية. فيما يطرح سياسيون اسئلة عن النظرة الايرانية لتبدل المشهد السعودي مسيحياً، وعما اذا كانت ايران قد فوّتت فرصة انتخاب فرنجية رئيسا، وسط معارضة مسيحية شاملة، وهو ما كان سيبقي دور المملكة اقل تأثيرا ويبقي المسيحيين على خصومة معها. فيما أن ما يجري حاليا يثير اسئلة في الشارع المسيحي، بين تخلي الحريري عن فرنجية والعودة الى مفاوضات مع عون الذي يرفضه بري ولا يمارس حزب الله ضغطا عليه. ففي المشهد المستجدّ، وحدها ايران لم تقل كلمتها بعد.