لا يزال وضع سوق العقارات على حاله بعد سنوات طويلة من الركود. المطورون يرفضون تخفيض الأسعار بما يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين، والمواطنون غير قادرين على الشراء في ظل أسعار مرتفعة فيها هامش كبير من الأرباح. يراهن الفريقان على الوقت، الأول ينتظر "الفرج" عبر الوصول الى تسوية سياسية في المنطقة ستنتج منها، كما يُروّج، فورة عقارية جديدة تؤدي الى ارتفاع أسعار العقارات مجددا! ويعتقد هؤلاء انّ هذه المرحلة باتت قريبة. والفريق الثاني يعوّل أيضاً على الوقت، عندما تُصبح أوضاع المطورين "حرجة" جراء الركود ما سيؤدي الى خفض الأسعار على نحو ملحوظ كنتيجة طبيعية لانخفاض الطلب، لكن على الصعيد السياسي يبدو ان لا حل قريبا في المنطقة ما يضعف فرص الفريق الأول، في المقابل يبدو واضحاً أن المطورين لن "يُحرجوا" بسرعة، وخصوصاً أنهم يعانون الركود من نهاية عام 2010، أي منذ 6 سنوات، وعلى الرغم من ذلك لم تنخفض الأسعار بشكل ملموس وسليم وطبيعي، وبالتالي لا حظوظ للفريق الثاني. القطبة المخفية في هذه المعادلة هي مصرف لبنان، الذي يمنع تصحيح أسعار العقارات عبر التدخل بشكل دائم لمصلحة المطورين العقاريين وتوسيع مديونية الأسر من أجل الحفاظ على مصالح المصارف، التي تمتلك مجموعة من الضمانات العقارية الضخمة، وهي لن تقبل تراجع اسعارها. آخر التدخلات في السوق العقارية هو التعميم الرقم 427، الذي يسمح بإنشاء شركات مالية مهمتها شراء نسبة من العقارات السكنية التي يتعثر بيعها من التجار الذين يواجهون ضائقة مالية، ومقابل عملية الشراء يحصل التاجر على قروض مدعومة.
في تقريره الأخير عن سوق العقارات، يقدم بنك "عودة" رؤيته لوضع السوق من خلال تحليل الطلب والعرض والأسعار، إضافة الى التوقعات المستقبلية. لا تخلو هذه الرؤية من نفس ترويجي، اذ يدعو البنك الناس الى الشراء في هذه المرحلة لأن الأسعار لن تتراجع أكثر، وهي "حتماً" سترتفع وفق الأسطورة اللبنانية القائلة ان "أسعار العقارات في لبنان لا تتراجع"، لكن فعلياً عدم تراجع الأسعار مرتبط بشكل وثيق بدعم مصرف لبنان، الذي قد لا يدوم، وهو ليس "قانونا إقتصاديا" ثابتا. كذلك فإن الحسم الذي يقدمه التقرير بعدم تراجع الأسعار في المستقبل، يتناقض مع ما أعلنه بأن التخفيضات التي يقدمها اليوم تجار البناء تعد معتدلة وبسيطة مقارنة بالمستويات العالية التي وصلت اليها الأسعار أثناء الفورة العقارية، معترفاً بأن "الأسعار لا تزال مرتفعة"، ما يعني أنها يمكن أن تنخفض أكثر.

سياسات مصرف لبنان: زيادة مديونية الأسر

يعترف بنك "عودة" بأنّ هناك فجوة واسعة بين القدرة الشرائية للناس وأسعار العقارات، وان تمويل مصرف لبنان خفف جزئياً من وطأة هذه الفجوة. كذلك يعترف بأن اسعار العقارات لا تزال مرتفعة من حيث القيمة المطلقة برغم التخفيضات المقدمة، جراء الإرتفاع الكبير في الأسعار الذي شهدته السوق اثناء الفورة العقارية.
يشرح التقرير ان "إدراكاً منه (أي مصرف لبنان) للظروف التي يواجهها السوق حالياً والفجوة الواسعة بين القدرة الشرائية لدى اللبنانيين ومستوى أسعار العقارات في البلد، اتخذ مصرف لبنان المزيد من التدابير الرامية الى اعادة احياء السوق، فأطلق موجة أخرى من الحزم التحفيزية لمساعدة القاطنين على سد احتياجاتهم التمويلية الناجمة عن التفاوت بين الدخل وأسعار السوق". هكذا، ارتفعت قروض الإسكان بنسبة 10.5% العام الماضي لتصل إلى 10.9 مليارات دولار، أي ما يساوي 18% من اجمالي القروض في القطاع المصرفي، وفق "عودة".
إذاً، الحل لسد هذه الفجوة الواسعة بين القدرة الشرائية والأسعار، هو زيادة القدرة الشرائية عبر توسيع مديونية الأسر كما بات واضحاً من سياسات مصرف لبنان، أمّا تصحيح الأسعار بما يتناسب مع القدرة الشرائية، فمن الواضح أيضاً انه غير مطروح على الاطلاق برغم إدراك المصرف المركزي لهامش الأرباح الكبيرة في الأسعار المطروحة، لكن ماذا عن "تراجع" أسعار العقارات الذي يشكو منه المطورون؟
"النق" الذي يروّج له تجار البناء دائماً عن تراجع الأسعار والخسائر التي يتكبدونها جراء كساد السوق لا يعكس في الواقع حقيقة الوضع الحالي وفق الأرقام التي يُظهرها بنك "عودة". صحيح ان قوة التفاوض اليوم باتت تميل لمصلحة الشاري، الذي يمكنه الحصول على تخفيضات بطريقة أسهل من قبل، وصحيح ان بعض المطورين، وهم قلة، أصبحوا يوافقون على بيع العقارات بأسعار أقل من المعروض في بعض الحالات، لأنهم يريدون تصريف الوحدات غير المباعة، لكن الصحيح أيضاً أن النسبة الأكبر من المطورين العقاريين حافظوا على أسعارهم خلال عام 2015 وآثروا عدم بيع وحداتهم بأسعار مخفّضة.
يقول التقرير ان أسعار العقارات، وفق العقود المباعة، تقلبت بشكل متذبذب، في بعض الحالات، عن الأسعار المطلوبة. ويستخدم توصيف "متذبذبة" نظرا لحفاظ الأسعار على مرونة نسبية بشكل عام، ما يعني ان التخفيضات بقيت ذات حجم معتدل. نتحدث هنا عن تخفيضات بلغت نسبتها من 5 الى 15% في محيط بيروت الادارية وفق تقديرات شركة رامكو، أما الشقق الفخمة المرتفعة الثمن، فتستدعي في بعض الاحيان هامش تخفيضات اعلى.
فعلياً، لم تتغير أسعار العرض كثيرا، وفق مؤشر اسعار السكن في بيروت الذي اعدته شركة رامكو، اذ يظهر المؤشر ان اسعار الشقق قيد الانشاء في بيروت انخفضت بنسبة 1.2% العام الماضي (بعد انخفاض بنسبة 0.7٪ في عام 2014)، من دون الأخذ بعين الإعتبار هوامش التفاوض والتخفيضات. وعليه يظهر انّ 57% من المطورين العقاريين حافظوا على اسعارهم خلال عام 2015، فيما خفّض 30% منهم اسعارهم وزاد 13% منهم الأسعار.
بالاستناد الى ارقام بنك عودة عبر المقارنة بين الربع الثاني من عام 2013 والربع الأخير من عام 2015 يتبيّن ان متوسط سعر المتر المربع انخفض بنسبة 13% تقريباً. لكن يكمل التقرير ان "برغم هذه التخفيضات المعتدلة، ومن خلال المقارنة بالمستويات العالية التي وصل اليها سعر العقار في نهاية الفورة العقارية عام 2010 والتي نتج عنها ارتفاع أسعار العقارات بمتوسط 35% سنوياً بين عامي 2006 و2010 ، تبقى الاسعار مرتفعة من حيث القيمة المطلقة، وفي الواقع لم نشهد حدوث اي انهيار في اسعار العقارات، أو حتى هبوطا للأسعار مماثلا لتراجع حركة المبيعات". يقول التقرير ان هذه التخفيضات عبارة عن تقديم حوافز للمشترين المترددين، ليعلن ان المرونة النسبية لأسعار العقارات في لبنان، لا تزال مرتبطة بالعوامل الهيكلية، مثل غلبة المستخدم النهائي على الطلب على السكن، والنفوذ الخفيف للمطورين (وقدرتهم المالية) الذين لا يسعون بشكل ضاغط لإغلاق صفقة البيع، وندرة الأراضي المتاحة للبيع في البلاد، وخصوصا في العاصمة.
انخفضت المبيعات بنسبة 10.5% السنة الماضية لترتفع بنسبة 2% في الأشهر الثمانية الأولى من 2016

إذاً، لا يوافق الباحثون في بنك "عودة" على التهويل الذي يمارسه تجار البناء للتحذير من انهيار سوق العقارات لا أساس له، إذ يعدّ التقرير أن أسوأ ما يمكن ان يحصل هو بقاء الوضع على ما هو عليه من دون تراجع ملحوظ للأسعار، والخلاصة التي يخرج بها أن لا تهديدات بانهيار السوق بسبب الهيكلية القائمة إنما هناك عوامل تؤخر الإنتعاش. يضع التقرير سيناريوهين لاتجاهات السوق: الأول يقوم على الإستمرار بالوضع الحالي، وبالتالي استمرار تراجع نشاط المبيعات العقارية وازدياد الشقق غير المباعة، وميل الأسعار سلباً كنتيجة للتخفيضات الممنوحة، لكن يذكّر التقرير انّ هناك حدودا للتخفيضات التي تمنح، إذ لا يمكن للمطورين ان يكسروا أسعارهم بشكل كبير من أجل إتمام صفقة. فأسعار الشقق تتألف من سعر الأرض وكلفة البناء وهامش ربح المطور العقاري، ومع تكبد المطور تكاليف البناء والأرض فإن ما يتغيّر عند تخفيض السعر هو في الواقع هامش أرباح المطور، وعليه فإن بعض المطورين لن يقبلوا ان يقدموا خصومات كبيرة، وبالتالي فإن التخفيضات مستقبلاً ستبقى ضمن الهامش المطروح اليوم ولن تزداد.
والسيناريو الثاني هو الوصول الى تسوية سياسية شاملة ستنعكس على المستثمرين، من دون أن ننسى ان تحسن الأوضاع يحل مسألة القلق لكن لا يحل مسألة الفجوة بين الأسعار والدخل. وعليه يخلص التقرير الى ان نشاط الإقراض سيكون داعما للمشترين ويمكن ان يسد جزئيا الفجوة الموجودة، لكن هذا لن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المدى القريب لأن تسييل المخزون الموجود من الشقق غير المباعة سيأخذ وقتا طويلا، ولا سيما في ضوء توقع ارتفاع المبيعات تدريجيا في هذا السياق.

العرض والطلب: شقق صغيرة في بيروت

في سنوات الفورة العقارية كانت الأبنية الفخمة ترتفع في بيروت لتتناسب مع الطلب الخارجي، وتحديداً الخليجيين. مثّل هؤلاء المحرك الأساسي لسوق العقارات قبل ان يبتعدوا عن لبنان مع بداية الأزمات السياسية. اليوم، من يحرك السوق العقارية هم اللبنانيون المقيمون وهؤلاء غالبا يشترون شققا سكنية لأنهم يريدون ان يتزوجوا.
يشير التقرير الى ان مجموع القيمة السوقية لمبيعات العقارات تراجع بنسبة 10.6% عام 2015 قبل ان يرتفع بنسبة 4.9% في الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2016. شهدت جميع المناطق من دون استثناء انخفاضا في حجم المبيعات العام الماضي، لكن هذه السنة تابعت فقط كل من المتن، كسروان والنبطية نشاطا منحدرا في السوق العقاري بينما حازت بيروت وبعبدا ما نسبته 50% من إجمالي قيمة المبيعات، وهو ما كان مسؤولا جزئيا عن التحسن الذي شهده السوق في الأشهر الثمانية الاولى هذه السنة. يقول التقرير ان عدد معاملات البيع لا يزال تقريباً يسير في الإتجاه نفسه، فقد انخفضت المبيعات بنسبة 10.5% السنة الماضية، لترتفع بنسبة 2% في الأشهر الثمانية الأولى من 2016 ومن ثم تعاود التباطؤ في الأشهر القليلة الماضية. وما يعكس ابتعاد المستثمرون الأجانب عن السوق هو عدد معاملات البيع للأجانب التي تابعت هبوطها على مدار هذا العام فانخفضت بنسبة 26.6% في الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2016.
يميل الطلب اليوم نحو الشقق الصغيرة ذات الأسعار المقبولة. كذلك يتجه الشارون الى تفضيل موقع العقار على مساحته، وبالتالي يريدون شققا صغيرة في بيروت وضواحيها القريبة، عوض شقق أكبر في الضواحي البعيدة. لهذه الأسباب، عدل المهندسون والمطورون عروضهم باتجاه مساحات سكنية أصغر تلبي احتياجات المشترين، فمثلا باتت غالبية الشرفات مغلقة أو مغطاة بستائر ومدمجة بالغرف، وقد أصبح هذا التصميم شبه قاعدة في البناء السكني في لبنان لأنه الأكثر طلبا في السوق.
العديد من الشقق السكنية التي يجري بناؤها اليوم تبلغ مساحتها أقل من 200 متر مربع، والعديد من المطورين باتوا يبنون استوديوهات تبلغ مساحتها أقل من 80 مترا مربعا. يشير التقرير الى ان مساحات الشقق الجديدة انكمشت بنسبة 8.9% عام 2015، و 2.3% في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2016.
ومن ناحية اخرى بلغت حصة بيروت من تصاريح البناء الجديدة 4% هذه السنة مقابل 20% في الأعوام العشرة الماضية. استفادت الضواحي المحيطة ببيروت مثل جبل لبنان من تزايد معدلات الشواغر في العاصمة ما دفع المطورين إلى الابتعاد عن العاصمة، وباتت منطقة جبل لبنان تضم الان حوالي 43٪ من إجمالي التراخيص الممنوحة. ويبدو ان هذا العام سيستهدف المطورون مناطق أبعد عن العاصمة مع ارتفاع تصاريح البناء المقدمة في مناطق الشمال والجنوب.
على صعيد سوق التجزئة يلمس التقرير توجهاً ناشئاً لفتح مساحات مشتركة تضم مجموعة مطاعم، معظمها خارج العاصمة. وعقب افتتاح The Backyard في الحازمية وThe Garden في الضبيه إضافة الى The Village في الضبيه، يتوقع ان تظهر سلسلة من المشاريع المشابهة في جونيه وجبيل والرملة البيضاء أوائل 2019، بالإضافة الى مركز المطاعم الجديد في الأشرفية. وعلى سبيل المثال سيطلق في شباط 2017 مشروع DALFA BAY وهو تجمع من المطاعم في عين المريسة. كذلك، فإن افتتاح ABC فردان، Tripoli Square mall ومركز تجاري آخر في الكسليك سيؤدي الى زيادة مساحة العرض في السوق.




التعميم الرقم 427

يسعى التعميم الرقم 427 الصادر عن مصرف لبنان في حزيران الماضي الى مساعدة المطورين المديونين على استكمال مشاريعهم أو البدء بمشاريع جديدة، مع الأخذ بالاعتبار المخزون الكبير من العقارات غير المباعة في البلاد على مدى السنوات القليلة الماضية، بالتوازي مع خفض تعرض البنوك للمطورين غير القادرين على بيع وحداتهم. وعليه، يسمح للبنوك بضمان قروض شركات العقارات (غير المملوكة من قبل البنوك) التي تسعى لشراء العقارات لتخفيف عبء الديون عن المطورين العقاريين. هذه العقارات يجب ان تكون مشيدة بعد الحصول على قرض جاري من المؤسسات المالية في لبنان، بحيث لا تكون قيمة القرض أقل من 50% من قيمة العقار المراد شراؤه. ويجب على شركات العقارات أن تسيّل العقارات المكتسبة خلال 10 سنوات من امتلاكها وشرائها عبر ضخ أسهم تعادل نسبتها أقله 40% من قيمة العقار، فيما الاسهم الباقية يمكن الحصول عليها وضمانها عبر القروض.



جدول: تراجع مبيعات العقارات (راكان)

جدول 2: تصاريح البناء (بحسب المساحة) بحسب غرض الإستخدام عام 2015 (سنان)