ترتفع حرارة الاشتباك الروسي ـ الأميركي على أسوار حلب. غليان يُشغل دوائر القرار في واشنطن وموسكو. الأيام الماضية شهدت رسائل متبادلة بين الطرفين، محورها ساحة حلب، أما دلالاتها فتصوّب نحو حرب إرادات سيكون لنتائجها تداعيات على الساحتين الدولية والإقليمية. واشنطن اضطرت بعد التقدم الميداني الكبير لدمشق وحلفائها في «عاصمة الشمال»، إلى أن ترتقي في مستوى رسائلها لتصل إلى حد قطع الاتصالات الثنائية مع موسكو، وطرح خيارات عسكرية لقواتها في سوريا.عملياً، الدولتان وضعتا نفسيهما في حلبة صراع تضيق يوماً بعد يوم، وكل طرف يتعامل بجدية كبرى مع رسائل الآخر، الأمر الذي يدفعه إلى الرد برسائل مضادة... سواء عبر حشد منظومات صاروخية أو قِطع بحرية، في مقابل دراسة خيارات عسكرية عملانية. وهكذا بدا أنّ صدقية واشنطن باتت على المحك، على الأقل من منظور حلفائها في الساحتين السورية والإقليمية، وموسكو بتصعيدها العملاني ونبرتها العالية وضعت أيضاً صدقيتها أمام الاختبار.
نتيجة ذلك، أي تراجع يُقدم عليه الروسي يتصل بمدينة حلب، قد ينطوي على رسالة ضعف أمام الأميركي، وهو ما قد يستدرج ضغوطاً أعلى لاحقاً، في ضوء ثبات جدواها العملية، ويدفع واشنطن إلى رفع سقفها السياسي والميداني في الساحة السورية. وبهدف قطع الطريق على هذا السيناريو، يحرص الجانب الروسي على أن لا يتجاوز التكيّف مع الأميركي سقوفاً معيّنة. وفي ضوء ذلك، باتت الكرة الآن في ملعب البيت الأبيض الذي يعكف على دراسة «الخيارات الجديدة».
أيضاً، ينبغي عدم تغييب حقيقة أن واشنطن سبق أن أظهرت جدية في رسائلها عندما أغارت على مواقع الجيش السوري في دير الزور، ما شكّل رسالة صريحة مفادها أنها على استعداد للذهاب في خيارات عملانية خارج إطار توقّع الطرفين الروسي والسوري.
في المقابل، وجّهت موسكو رسائل مضادة عبر إدخال منظومات صواريخها الجديدة (اس 300) إلى سوريا، وسفنها الحربية التي تخرج للمرة الأولى من موانئها. وأظهرت بذلك، جدية مقابلة للجدية الأميركية... لكن الطرفين يُقرِنا هذا السقف المرتفع في «حرب الإرادات»، بخطاب سياسي يبحث عن مخرج للطرفيْن.
أي انكفاء أميركي سيوجّه رسالة ضعف إلى روسيا وحلفائها

الأميركي يطمح مرحلياً – وفق صيغة الحد الأدنى – إلى منع سقوط حلب بأيدي الجيش السوري. وبعبارة أخرى إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين تسلّم إدارة جديدة في البيت الأبيض. أما الروسي، فيرى أنّه يجب استثمار الأسابيع الأخيرة لإدارة الرئيس بارك أوباما في السياسة والميدان. وبذلك، يضع الطرفان الروسي والسوري من خلال مواصلة اقتحام أحياء حلب الشرقية، واشنطن أمام الاختبار الصعب: التدخل المباشر.
لهذا التدخل مجموعة دوافع بالنسبة إلى الإدارة الأميركية حالياً، أهمها صدقية واشنطن أمام حلفائها من الدول الإقليمية، وحتى بالنسبة إلى الأطراف السورية التي تراهن عليها.
كذلك، إنّ أي انكفاء أميركي سيوجّه رسالة ضعف لروسيا وحلفائها وحتى للجماعات المسلحة في الساحة السورية مع ما قد يترتب على ذلك من تداعيات ميدانية وسياسية تتصل بالساحة السورية.
يريد الأميركي أيضاً، كبح الاندفاعة السورية، وهو حريص على أن يستثمر انتصار الموصل المُفترض داخلياً، لكن إذا ما اقترن بنكسة في حلب سيشكل ذلك ضربة للإدارة الحاكمة، ويؤدي إلى امتصاص وهج «الورقة الرابحة» أمام «داعش» في العراق.
أما الكوابح فهي عديدة أيضاً، أولها أنّ أوباما لا يريد أن يُستدرج إلى خيارات لم يردها ورفضها طوال سنوات حكمه، وقد يصعب عليه توريث خلفه في الرئاسة ملفاً مُشتعلاً بأيادٍ أميركية على هذا النحو. كذلك فإنه يعلم أنه في حال إقدامه على أي خطوة عسكرية، قد تستوجب رداً من الجانب الروسي. وهذا الرد من الممكن أن يظهر بدفع كبير للعمليات في حلب، فيقع أمام معضلة «الرد على الرد» والسياق الذي يمكن أن تتدحرج معه الأمور.
لذا أمام الأميركي في سوريا سيناريوهات وخيارات متعددة، أولها الرسائل الميدانية ذات البصمة المنخفضة (ضربات محدودة وموزونة على مواقع للجيش السوري لا تقلب الموازين). ثاني السيناريوهات هو الخيار الصاخب مع ما يستجلبه من اشتعال كرة نار لا يسلم منها أحد. أو العمل على إيجاد مخرج سياسي عبر تثمير الاتصالات السياسية، وخاصة «المبادرة» الفرنسية الأخيرة بهدف عودة قنوات المحادثات السياسية مع الجانب الروسي والوصول إلى تفاهمات الحد الأدنى، من هُدَن وإيصال مساعدات إنسانية.
من الصعب الجزم في ما ستؤول إليه الأمور، لكن في ظل المخاوف المشتركة سيستنفد الطرفان المحاولات السياسية لتفادي الاصطدام، ومن المستبعد التوصل إلى خيار عملاني قبل استخدام آخر قناة دبلوماسية.
في النتيجة، أي صيغة/ وضعية ستنتهي برابح وخاسر. ولن يكون في الأشهر المقبلة رابح بعلامة كاملة أو خاسر بالضربة القاضية. الطرفان يبحثان عن رجحان يميل الكفة نحوه، وكل سيناريو من هذه السيناريوهات يتمتع بقدر معتبر من رجحان التحقق. وبالتالي الساحة السورية تمرّ بمرحلة مخاض جديدة تتصل بمدينة حلب، خاصة أن أي نتيجة ستؤول إليها التطورات ستؤدي إلى تغيير فعلي في موازين القوى في الساحة السورية، ينطوي على رسائل مدوية إقليمياً ودولياً. والمعيار في قياس النتائج، ستحدد وفق خيار من اثنين: إما استمرار الهجوم السوري والسيطرة على كامل مدينة حلب، أو تكيّف الروس وحلفائهم مع «الاندفاعة» الأميركية التي تهدف إلى الإبقاء على الوضع القائم إلى حين تسلّم الإدارة الجديدة.