ليس سياسياً واحداً أو اثنين أو ثلاثة، بل مجموعة كبيرة من السياسيين الذين تفرض الحساسيات المذهبية القول إنهم من الطائفة المارونية. لا يكاد البطريرك الماروني بشارة الراعي ينطلق في جولة محلية أو دولية حتى يبدأوا التذمر، قائلين إن بكركي تُزار ولا تزور، فما له يحمل التاج والصولجان ويتنقل من قرية إلى أخرى، مطارداً الأضواء بدل أن يخرج منه الضوء. تمر الأشهر ويستقر البطريرك فيبدأون هم أنفسهم بالسؤال: "أين البطريرك؟"، متذمرين من غيابه وتفرجه على الفراغ الرئاسي ومختلف الأزمات. لكن لا يكاد البطريرك يدلي بموقف، حتى يبادروا إلى الاتصال متمتمين باستيائهم من مخالفته توصيات السينودس بالفصل بين المذابح والمنابر. علماً أن موقف البطريرك بشارة الراعي الأخير كان يفترض أن يتبعه استقبال عونيّ ــــ قواتيّ للراعي لدى عودته من الديمان إلى بكركي، أشبه باستقبالهما لسلفه لدى عودته من الولايات المتحدة عام 2001، إلا أن العونيين أنفسهم تعاملوا مع الموقف بحذر شديد لريبتهم من كل نار يمكن أن تشعل زيت الرئيس نبيه بري أكثر فأكثر. فرئيس المجلس يبحث عن ذريعة تلو الأخرى لتمتين تشدده، وما يعجب الجمهور العوني و"يفش خلقه" بضع دقائق يمكن أن يسهم في النهاية بإنزال العونيين عن السلم الذي يصعده الجنرال بتأنٍّ وحذر. أما القوات فلن تجاهر بذلك: انحسار دور الراعي كان أكثر مما تمنته بكثير في ظل تغريده سياسياً بعيداً جداً عن معراب. وعليه، حتى في هذه، الراعي "مش مخلّص". ومن يتابع البطريرك يلاحظ حجم المشاكل التي يتخبط بها الصرح. فالكتف الصلب الذي تتكئ بكركي عليه حين تتعب هو السفارة الفاتيكانية، حيث يوضّب السفير أمتعته للعودة قريباً جداً إلى الفاتيكان، وفي انتظاره منصب رفيع يرجح أن يكون وزارة الخارجية التي تُعَدّ الموقع الإداري الثاني بعد الكرسي الرسولي، وهو لا يزال على موقفه المستجد السلبيّ من أداء البطريرك. وها هو عراب البطريرك الكاردينال ساندري يزور لبنان اليوم من دون أن يكون لذهابه ومجيئه صخب محطاته السابقة. أما من واصلوا الدفاع عن الصرح والتبرير بشتى الوسائل فيتخبطون بمشاكل كثيرة يَرَوْن أن بكركي مسؤولة مباشرة عن جزء منها. فمن تابع البطريرك في جولته الأخيرة في العاقورة مثلاً، لاحظ أن أصحاب المتاجر لم يكبدوا أنفسهم عناء إغلاق متاجرهم، سواء للترحيب به أو للسير خلفه، فيما بقي المزارعون في أراضيهم يطمرون التفاح المهترئ المتساقط من الأشجار، في ظل تكرار البطريرك للكلام نفسه عن الثمرة التي تُطعم أُسرهم وتعلم أبناءهم في المدارس والجامعات الكاثوليكية بدل أن يلزم الرهبانيات بصرف جزء يسير من فوائد ثرواتها في المصارف لشراء برادات تحفظ الثمار، أو إلزام المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف بشراء الإنتاج. وتطول هنا كثيراً لائحة المآخذ الشعبية ممن اعتادوا تقصير الدولة والأحزاب، لكنهم كانوا يعتقدون أن لدى الكنيسة خططاً إنقاذية يعوَّل عليها. علماً أن الدولة تتقاضى ضرائب ولديها خواتها، لكنها لا تقارن أبداً بما تدفعه أُسر كثيرة للمؤسسات الكاثوليكية التي تعتقد بينها وبين نفسها أنها وجدت لتخدم مجتمعها لا العكس. والمطلعون يتحدثون عن ملفين كبيرين أسهما أكثر فأكثر بزعزعة الثقة الشعبية بالراعي وانهيار الآمال، أولهما ملف المساكن الشبابية في مشاع البلديات الكبيرة التي عرضت عدة جمعيات مسيحية عالمية تمويله، لكن أحداً لم يلاقهم في منتصف الطريق بحكم العلاقة الوطيدة لبكركي مع كبار المستثمرين في دنيا المشاريع السكنية الذين لا يحتملون خطف آلاف الشباب من أمامهم. وبدل أن يعاجل الراعي إلى إنشاء خلية عمل لا تستكين إلا بإتمام ما سبق، لم يعقد أي اجتماع، ولم تتلقّ أي بلدية طلباً لشغل مشاعها. المشروع الثاني أعدته مجموعة من الرهبان، يقضي بسحب الداتا من خوارنة الرعايا المارونية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، التي لا يملكها أحد، حتى وزارة الخارجية اللبنانية.
ما حصل أمس في مجلس المطارنة كان «كسرا للشر» وتكويعة هادئة
والداتا تحتوي على أسماء كل أبناء الرعايا اللبنانيين المسيحيين، والمتحدرين من أصل لبناني، وأرقام هواتفهم وبريدهم الإلكتروني، بحيث يمكن الاستفادة منها لخلق صندوق تعاضدي جراء إسهام هؤلاء بمبلغ زهيد لا يتعدى 10 دولارات شهرياً. وذلك يتيح للرهبنة المارونية إنشاء مصرفها الخاص لتمويل مدارسها ومساكن رعاياها وكل حاجاتهم بنفسها دون منّة من أحد. عبثاً بُحّ صوت الرهبان لحثّ الراعي على التحرك، نظراً إلى أن هذه الداتا لا تمنح إلا بطلب من البطريرك شخصياً. لكن "سيّدنا" لم يرَ فائدة في ذلك. المشروع الثالث مبنيّ على دراسة باللغة الإنكليزية أعدّها الفاتيكان حول وضع لبنان الديموغرافي قبل عام 2011 وبعده. وفي تفاصيلها أن لبنان قبيل الحرب السورية كان قائماً على المثالثة العددية بين المسيحيين والسنّة والشيعة، إلا أن النزوح السوري والفلسطيني ضاعف عدد السنّة، فاختل التوزع الديموغرافي. ويعرض الفاتيكان في التقرير واقع أن السوريين دخلوا في النسيج الاجتماعي والاقتصادي، إن من خلال المصاهرة، أو من خلال اليد العاملة. ويعرض مثالاً عن منطقة البقاع حيث 90% من المطابع الورقية تديرها مؤسسات وشركات سورية. وبالتالي أمام بكركي خيار من اثنين: 1ــ عقد اجتماع مع القيادات السنية السياسية والدينية للمساعدة في كودرة النازحين وتوفير الدعم المادي لهم بالحد الأدنى لضمان عدم انحرافهم نحو التكفير.
2ــ في حال عدم نجاح الخطة الأولى، يفترض بالكنيسة، حارسة الوجود المسيحي تاريخياً، التحرك نحو الغرب عبر تقرير يفند ما يحصل وخطر التغير الديموغرافي في لبنان وعدم قدرته على استيعاب الأعداد الوافدة إليه للضغط عليها من أجل إيجاد حلول سريعة لتدارك الأخطار المستقبلية. لكن مجدداً، طوي التقرير فور وصوله إلى بكركي. فبكركي لا تريد وجع رأس، سواء مع الرهبانيات والمدارس والجامعات أو مع رجال الأعمال الذين "يتبكبكون" يومياً في الصرح من سوء الأوضاع، أو مع السياسيين الذين يفسحون المجال أمام محازبيهم لتجاوز كل المحظورات على صفحات التواصل الاجتماعي. إضافة إلى أن بيت الراعي الداخلي لم يستقر منذ وصوله إلى بكركي. فما كاد يعزل القيم البطريركي على الأملاك البطريركية ويعين آخر، حتى فوجئ بالقيم الجديد يقدم استقالته بعد بضعة أشهر. لماذا؟ لا أحد يعلم. وما كاد يعين سكرتيراً جديداً خاصاً، حتى تقدم الأخير باستقالته أيضاً. لماذا؟ لا أحد يعلم. لكن ثمة شائعات كثيرة عن "جو غير مريح في الصرح". وزادت الأمور تأزيماً مع انتخاب مجلس المطارنة نائباً بطريركياً، فإذا بهم يتبلغون عبر البريد تعيين البطريرك لآخر. هناك ما لا يمكن فهمه طبعاً، إلا أن البطريرك الذي دخل الصرح بقوة وعين أكثر من عشرة مطارنة دون أن يشاركه أحد بتسميتهم وعلاقته وطيدة بالرهبانيات لم يُقلع كما يجب. لماذا؟ يقول المقربون من الصرح والغيورون عليه إن الأمر يتعلق بغياب خريطة الطريق والعقل المنظم، والأهم من هذا كله الرؤية الواضحة لما يجب أن تكون عليه الأمور. والأخطر من هذا كله هو التردد، فرفع السقف على نحو غير مسبوق ضد سلة رئيس المجلس كان يفترض أن يتواصل بزخم أكبر لو كان الموقف نتيجة قناعة وقرار مدروس، لكن ما حصل أمس في مجلس المطارنة كان "كسراً للشر" وتكويعة هادئة. وهو ما يدفع الجمهور إلى عدم التفاعل مع البطريرك في انتظار أن يتبين ما سيكون موقفه في اليوم التالي. علماً أن الصرح في عهد صفير بقي يحيط نفسه بجدران دفاع كثيرة، لكن النظرة الموضوعية تبين أن من أبقاهم الراعي حوله قليلون جداً. علماً أن توصيات فاتيكانية عديدة قضت بتجنيد بكركي كل المؤسسات الكنسية لاحتواء أزمة المسيحيين السوريين والعراقيين والعمل بالتنسيق مع الأمم المتحدة على ضمان عدم هجرتهم، لكن بطريركية إنطاكية أدارت ظهرها أيضاً وأيضاً.
لكن رغم هذا كله بدا واضحاً أن صوت بكركي لا يزال عالياً حين يتعلق بالأمر بموقف سياسي خارج عن المألوف، يحاكي النقمة الشعبية والاحتقان. إلا أن الموقف ونقيضه لن يؤديا إلا إلى سحب الثقة ممن بقي. المطلوب من بكركي أكثر من مَوقف انفعالي عابر، المطلوب رؤية متكاملة ومشروع اقتصادي اجتماعي سياسي، بات أكيداً أن البطريرك الراعي لم ولن يتعامل معهما بجدية.