أن تسبح عكس التيار، هو أمرٌ لا يشجعك عليه أحد. في خضم المعتاد البعيد عن الثقافة، قررت عائلة النمر الفلسطينية المعروفة العام الفائت تأسيس فضائها الثقافي الخاص «دار النمر للفن والثقافة» في قلب العاصمة اللبنانية. كان الأمر أشبه بمغامرةٍ بالنسبة إلى كثيرين، أولئك الذين اعتقدوا بأن الموضوع لن يستمر طويلاً؛ وسيتجه عاجلاً أم آجلاً ناحية أنشطةٍ محلية صغيرة، سرعان ما سيطويها النسيان؛ ليدخل بعدها المشروع بحد ذاته دائرة النسيان.اليوم، تعود الدار التي ما توقّفت عن العمل الدؤوب منذ ولادتها عبر نشاطٍ كبير هو «قلنديا الدولي». هذا النشاط الذي تأسس عام 2012 ينظّم عادةً كل عامين في فلسطين، لكنه هذه المرة يمتد إلى بيروت ولندن وعمان. المهرجان الذي يقام من قبل مجموعة من المؤسسات الثقافية العاملة في حقل الفنون البصرية، يهدف إلى حشد الطاقات والإمكانيات الموجودة لدى أشخاصٍ يعملون في شتى المجالات الفنية والثقافية من أجل جعل فلسطين وجهةً للمهتمين بالثقافة والفنون البصرية من جميع أنحاء العالم. النشاط الذي سيقام في الوقت عينه في العديد من مدن وعواصم العالم (حيفا، غزّة، القدس، رام الله، بيت لحم، بيروت، عمّان، لندن) بدءاً من اليوم حتى 31 الشهر الحالي، سيحمل راية محمود درويش «هذا البحر لي» وستتمحور ثيمته حول «العودة» في السياق الفلسطيني.
عملت «الدكتافون» مع أشخاصٍ يسكنون مخيم الرشيدية، محاولةً وصف علاقتهم بالبحر

يحدثنا رامي النمر صاحب الفكرة ومؤسس الدار بأنّ «أهمية ما نفعله هو إفساح المجال لحرية الرأي والتفكير، بغض النظر عما إذا اختلف أحدهم معنا أم لا. من واجباتنا، أن نعيد للمجتمع الفلسطيني مكانته الطبيعية، فهو لطالما كان مجتمعاً فاعلاً، مثقفاً، ومتنوراً، وهذا الأمر تغيّر خلال السنوات العشرين (أو الثلاثين) الفائتة. من هنا، فإن «دار النمر» تسعى إلى إعادة هذا الدور الطليعي والريادي للمجتمع والوجود الفلسطيني». يؤكد النمر بأنَّ «الدار ستكون فاعلة وناشطة في الشأن الثقافي والاجتماعي لأنّ هدفها الرئيس في النهاية هو حماية تاريخ هذا الشعب، كما تاريخ هذه المنطقة، لأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعالم العربي». وأكد «لطالما اعتبر الصهيوني وثقافته الاستعمارية القائمة على اللادينية (الصهاينة الأوائل لم يبنوا فكرهم على الدين أساساً، ولم يقدموا أنفسهم على أساس ديني) بأنهم آتون إلى أرضٍ لا شعب لها. وإذا كان هناك شعب، فإنهم يقدمونه على أساس أنه غارٌق في البداوة، وهم ـ أي الصهاينة- علّموه الحضارة والزراعة والصناعة وما شابه. مهمتنا أن نعيد التذكير بشكلٍ دائم بوجود هذا الشعب، وبحضارته، وبوجوده وبأهمية تلك الحضارة للمنطقة وللعالم ككل». ولا ينسى النمر أن يعرج على الكثيرٍ من الأمور «المؤرقة». يقول: «يروّج كثيرون ـ وخصوصاً في العالم العربي- بأنَّ الفلسطيني باع أرضه، وهرب من القتال. يكفي فقط أن أشير إلى نقطةٍ تاريخية مثبتة عندي وبالوثائق الدقيقة تؤكد بأنّ عدد الجنود الإنكليز في الهند بأكملها كان 15000. أما في فلسطين، فقد احتاجت بريطانيا للبقاء في أرضنا إلى أكثر من 120 ألف جندي بسبب الثورات والمقاومة اليومية لوجودها هناك».
وبالعودة إلى النشاط الذي يزخر بالعديد من الأعمال الفنية التي يمكن اعتبارها مزيجاً متقارباً بين الفن الموجّه/ المقاوم والفن الحديث، تحدثنا رشا صلاح القيّمة على المعرض (وهي أيضاً المديرة التنفيذية في «دار النمر للفن والثقافة» منذ إطلاقها)، عن مشاركة الدار في «قلنديا» لا كصالةٍ للعرض، بل كمشاركين فاعلين لديهم ما يقولونه في النشاط بحد ذاته من خلال أخذهم لكثيرٍ من التفاصيل والرؤى في الاعتبار: «كانت مشاركتنا كي نحكي رؤيتنا. العامل الذي كان محور الحديث وثيمته هو البحر والعودة: كان سؤال «عن أي عودة نتحدث» أمراً أساسياً بالنسبة إلينا. كذلك: عن أي بحرٍ نتحدث؟ هل البحر الذي يأخذ اليوم إلى هجرةٍ وموت وابتعاد وشتات أكثر أم إلى البحر الذي يفضي إلى فلسطين؟ إلى مخيماتنا القابعة بالقرب من البحر، القريبة مسافةً من فلسطين، البعيدة سياسياً وواقعياً عنها؟ كل هذا كان بالنسبة إلينا فرصةً لفتح النقاش والخوض فيه من خلال الأعمال الفنية المشاركة في هذا النشاط الملهم للفنون البصرية». صلاح النشيطة للغاية، تؤكد أنَّ الأعمال المشاركة تتنوع بين الفيلم والتسجيلات السمعية والبصرية، والمسرح، والأرشيف، فاختيار هذه الأعمال جاء كمحاولة للإجابة على الأسئلة ذاتها التي يطرحها سؤال العودة والبحر. ولأن القضية، أي قضيةٍ تحتاج إلى أرشيف لحفظ تاريخها وتأريخه، كان البداية مع «بحرٌ من حكايات: أسفار الأرشيف الفلسطيني» مع أحمد باركلي (مهندس معماري يعمل في مجال التواصل البصري) وهنا سليمان (باحثة تعمل في مجال الأرشفة والمحفوظات) الذي يطرق باب البحث عن الأرشيف الفلسطيني. يحاول الباحثان الإجابة على أسئلة من قبيل: ما هو الأرشيف الفلسطيني؟ وماذا حل بأجزائه؟ ولماذا هي صعبة المنال؟ ثم هناك السؤالان الأكثر أهمية ورئيسية: ما هي دلالات غياب الأرشيف على السيرة الفلسطينية مثلاً؟ وعلى ممارسة التاريخ ككل؟
«الموجة» هو اسم العمل الفني الذي يقدمه الفنان الفلسطيني ـ ربما الأشهر والأنشط بين أبناء جيله- عبد الرحمن قطناني (مواليد 1983) القادم من مخيّم صبرا البيروتي. الموجة التي صنعها قطناني من «أسلاكٍ شائكةٍ» تشكّل صدمةً للقادمين لرؤية المعرض والنشاط بأكمله، إذ تلوح بعيدةً فتبدو موجةً جميلة عاتية، لكن حالما تقترب منها، حتى تجدها أشواكاً قاسيةً لا ترحم. بدوره، يقدم كمال الجعفري المخرج المعروف وصاحب «ميناء الذاكرة» (2009) و«السطح» (2006) فيلمه الأشهر «استعادة». هنا، أخذ أفلاماً إسرائيلية وأميركية مصوّرة في مدينته الأم يافا، وحذف منها كل الشخصيات والأبطال، فظلّت الأماكن فارغةً. هكذا، يصبح «المستحيل» ممكناً، والمدينة قريبةً إلى حدٍ كبير من المشاهد. من العروض السينمائية أيضاً، يأتي عرض المخرجة الفلسطينية ميس دروزة (هي فلسطينية سورية أردنية) «حبيبي بستناني عند البحر» (2014). إنّه فيلمها الروائي الأوّل الذي قدمّته سابقاً في «مهرجان تورنتو السينمائي الدولي». يحكي الفيلم سيرة فتاةٍ تزور وطنها الأم فلسطين للمرة الأولى. تتبع حبيبها حسن إلى عالم حيث يختلط الخيال والحقيقة في أسئلةٍ حول الحاجة إلى الحلم في لحظةٍ ما. على الموجة نفسها، يأتي الفيلم القصير «انعكاسات» للسورية (فلسطينية الأصل) سارة زرياب. يحكي الشريط عن علاقتها بأهلها الذين بقوا في سوريا (بعد الأحداث)، وكان الـ «واتس آب» وسيلة التواصل الوحيدة معهم. الفيلم الأخير في المهرجان (يعرض بالتعاون مع جامعة الـ USEK) هو «هامول» لموريسيو ميسل (من الجالية الفلسطينية الأصل في تشيلي) الذي وجد مجموعة من التسجيلات السمعية والبصرية إبان وجود عائلته في فلسطين. هذه التسجيلات تقدّم الاستعمار الصهيوني بوجهه الحقيقي والمتوحش، عاكسةً المعاناة التي مر بها أجيالٌ من الفلسطينيين في تشيلي خلال رحلةٍ حميمة وشخصيةٍ للغاية عبر ذاكرة أولئك المهاجرين وعائلاتهم.
حوار مع المخرج مهند يعقوبي حول دور السينما في تشكيل الهوية الفلسطينية

على جانب آخر، يأتي عمل «استراحة مخيّم» لـ «مجموعة الدكتافون». تتكوّن الفرقة من الفنانتين تاتيانا خوري وبترا سرحال، بالتعاون مع المعمارية والباحثة عبير سقسوق، وتعمل عادةً على انتاج عروض حية مرتكزة إلى أبحاث تعرض في أماكن متعددة مثل باص قديم، تلفريك، قارب صيد وسواها. قامت المجموعة بالعمل مع أربعة أشخاصٍ يسكنون مخيم الرشيدية (يقع جنوب مدينة صور وهو الأقرب جغرافياً إلى فلسطين من بين المخيمات الـ 12 المعروفة)، محاولةً رسم مسار حياتهم اليومية وصولاً إلى العلاقة مع البحر وفلسطين. ولأنه من الطبيعي أن يكون المسرح جزءاً من أي عملٍ فني، كان «عرض مسرحي بحاجة ماسة إلى جمهور» (المؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس)، معبّراً عن تلك العلاقة الأزلية بين البحر والمهاجر. إنها مسرحيةٌ صامتةٌ تحكي عن مهاجرٍ يسعى لركوب القوارب الراحلة. لا يناقش العمل الأمر، ولا يقدّم معالجةً بمقدار ما يقدّم الحكاية كما هي: ماذا حدث مع الشاب، وكيف يحدث كل هذا؟ مسرحياً أيضاً، يأتي عرض «خطوات، إيقاع ومخيم» لـ «مركز أجيال - محترف القنديل الصغير للمسرح والرقص»، ليقدّم نتاجاً للأعمال التي أنجزتها الفرقة خلال السنوات السبع المنصرمة. تأسس المحترف عام 2008 في مخيّم عين الحلوة، ويجمع شباباً من المخيم لإنتاج أعمال مسرحية ملتزمة بقضايا وهموم أهل المخيّم.
في الإطار عينه، يتعاون «قلنديا» و«دار النمر» من أجل خلق أفقٍ للحوار من خلال ندوات ولقاءات تتماهى مع الموضوع المطروح ضمن الحدث بحد ذاته. ضمن هذا السياق، يأتي الحوار مع المخرج والمنتج الفلسطيني مهند يعقوبي «خارج الإطار: ثورة حتى النصر» حول تاريخ صناعة الفيلم الفلسطيني ودورها في تشكيل الهوية الفلسطينية وارتباطها مع حركة السينما. طبعاً، لا يمكن نسيان هنا أن السينما الفلسطينية أساساً قدمت نفسها على أنّها سينما «ثورة» قبل أي شيء. وانطلاقاً من ذلك يشارك يعقوبي الذي تبحّر في هذا الموضوع بهدف إتمام فيلمه الطويل (يحمل اسم «خارج الإطار» أيضاً). يخاض الحوار مرةً أخرى تحت عنوان «البحر من هنا». يتمحور الموضوع حول إتاحة البحر كممارسة اجتماعية وكحق «في صناعة مدننا وإدارتها» وتشارك فيه «مجموعة الدكتافون»، والمعمارية الفلسطينية الأردنية نهى عنّاب، وغياث الجيباوي وهو أيضاً مهندس معماري يعيش متنقلاً بين ميلانو الإيطالية وكولونيا الألمانية، ورنا جربوع الباحثة والموثّقة لفن الغرافيتي.
في الختام؛ يأتي هذا النشاط الكبير كنوعٍ من المحافظة على «الذاكرة» قبل أي شيء. يؤكد لنا رامي النمر بأنَّ «الذاكرة لا تنتهي، كما أنّها لا تباد. يتباهى الصهاينة بأنهم لا ينسون وبأنَّ ذاكرتهم تمتد إلى عصر التوراة، لكنهم ينسون (أو يتعمدون نسيان) أنّ الفلسطينيين موجودون منذ ما قبل ذلك، وذاكرتهم تمتد إلى الكنعانيين الأوائل. إن ذاكرة الفلسطيني الحقيقية لا يمكن لشيءٍ أن يمحوها: لا شتات، ولا اضطهاد، ولا احتلال، ولا توطين، ولا تجنيس، لأنَّ هذا الإنسان لن ينسى بغريزته الفطرية وجوده الأصلي وتاريخه، فمن ليس له تاريخ وماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل».

* «قلنديا الدولي»: بدءاً من اليوم حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ qalandiyainternational.org




«دار النمر»: بحر من حكايات

تزامناً مع انطلاق «قلنديا الدولي» اليوم في فلسطين، تقيم «دار النمر» (كليمنصو) احتفالاً افتتاحياً عند السابعة مساءً مطلقة مشروعها ضمن المهرجان بعنوان «بحر من حكايات» (تنسيق رشا صلاح)، الذي يشارك فيه الفنانون: أحمد باركلي وهنا سليمان، عبد الرحمن قطناني، كمال الجعفري، «مجموعة الدكتافون»، مهند يعقوبي، ميس دروزة، «المؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس»، «محترف القنديل الصغير للمسرح والرقص»، موريسيو ميسل، وسارة زرياب. أما البرنامج فهو:

◄ الجمعة 7 تشرين الأول (أكتوبر)
س:18:30 ـ عرض فيلم «استعادة» (2015) لكمال الجعفري يليه حوار بين المخرج والفنان أكرم الزعتري.
◄ الثلاثاء 11 تشرين الأول
س:18:30 ــ حوار: «بحرٌ من حكايات: أسفار الأرشيف الفلسطيني» منتدى حواري يجمع أحمد باركلي وهنا سليمان.
◄ الخميس 13 تشرين الأول
س:18:30 «عرض مسرحي بحاجة ماسة إلى جمهور» لـ «المؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس».
◄ الجمعة 14 تشرين الأول
س:18:30: عرض فيلم «حبيبي بستنّاني عند البحر» لميس دروزة يليه حوار بين المخرجة وريما مسمار.
◄ الثلاثاء 18 تشرين الأول
س:18:30: منتدى حواري حول السينما المناضلة بعنوان «خارج الإطار: ثورة حتى النصر» يقدمها المخرج والمنتج الفلسطيني مهند يعقوبي.
◄ الخميس 20 تشرين الأول
س:18:30: عرض فني بعنوان «خطوات، إيقاع ومخيم» لـ «مركز أجيال - محترف القنديل الصغير للمسرح والرقص».
◄ الثلاثاء 25 تشرين الأول
س:18:30: منتدى حواري بعنوان «البحر من هنا» لـ «مجموعة الدكتافون».
◄ السبت 29 تشرين الأول
س: 11:00 - 12:00 صباحاً ــ مرفأ عين المريسة: جولة صيفية بعنوان «هذا البحر لي» تقدمها «مجموعة الدكتافون».
◄ السبت 29 تشرين الأول
س: 17:30: عرض فيلم «انعكاسات» لسارة زرياب يليه نقاش مع المخرجة.
◄ السبت 29 تشرين الأول
س: 18:30: عرض فيلم «هامول» لموريسيو ميسل تليه محاضرة للباحث جيرالدو كامبوس.

دار النمر للفن والثقافة»: «فيلا سالم» (شارع أميركا ــ كليمونصو ــ الحمرا/ بيروت). للاستعلام:
[email protected] أو 01/367013