كلما رسم عون ومن معه للناس حلماً، اتهموا بالوقوع في ما بعد الوهم، وتكرر نعت "السذاجة" لهم في السياسة. منذ أسبوع، وبعد عودة سعد الحريري إلى البلد، وإطلاقه مسار تفاوضه السياسي الجديد، في مناخ انعطافته الرئاسية المستجدة، طفت على وجدانات الناس مسحة من تفاؤل مكتوم. غير أن صمتهم لم يحل دون عودة الاتهام: ساذجون أنتم سياسياً ورئاسياً! تهلوسون أنتم، حين تسمحون لعقولكم بمجرد التفكير، بأنه سينتخب. أو أن هناك من سينتخبه! اتهام يفرض البحث والتدقيق، لماذا لم يتعلم عون، ومن معه، من تجارب "الأوهام"؟!على مدى ربع قرن، كانت وقائع البلد كافية للاعتبار واستخلاص الدروس وتعلم أمثولات الحقيقة والسراب. ربع قرن بدأ حين أحكمت الوصاية قبضتها على البلد. أمسكت بعنقه وقصبة أنفاسه، أرضاً وشعوباً وهياكل مؤسسات. يومها، بدا للناس أن ذلك الحكم قد تأبد. أن الحاكمين باقون حتى نهاية الأزمنة. بين 1992 و1996، أربع سنوات فقط، كانت كفيلة باستيعاب غالبية اللبنانيين المطلقة، في "مشاركة" الوصاية، وإسقاط "مقاطعتها". تكيف الناس. تروضوا وتدجنوا. خنقتهم أوجاعهم وحاجاتهم وخوفهم من الطغيان وعهد الاستبداد المطلق. وزادت عليهم طبقة كاملة من "المتعاونين" كان غازي كنعان خبيراً محترفاً واختصاصياً محنكاً في تفريخها واستنساخها مثل الفطر. لم يترك عائلة لم يقنعها بمرشح منها. ولم يترك بيتاً لم يزين له ضرورة أن يكون له مرشحان على الأقل. مشى الناس بأكثريتهم صوب التطبيع مع الوصاية. لا لزوم لأدلة ولا سوق شواهد ولا فتح جراح ونكء أسرار. كلهم مشوا يومها ... إلا حفنة صغيرة من سياديين، ظلوا يصرخون حتى انقطاع النفس، أن الجيش السوري يجب أن يرحل.
يومها كانت المعتقلات كل ما يحصدون. وكانت أرضيات الزنازين الكراسي الوحيدة التي يشغلون. وكانوا أكثر منها عدداً. حتى فاضت بهم فكسروا قضبانها. كانوا حفنة من أحزاب قليلة. كتبوا ألمهم أدب معتقلات وفنون معاناة. حفروا جدرانها كما حفرت وجداناتهم وأجسادهم. صمدوا في وجه كل الخطر، وكل البطر. حتى جسدوا حرفياً معادلة غاندي: في البداية تجاهلهم المستبد. بعدها سخر منهم. ثم حاربهم، عندها انتصروا!
على مدى ربع قرن، حتى الآباء والأمهات، كادوا يقولون لأبنائهم: ماذا تفعلون؟ أي وهم يسكن رؤوسكم؟ أي سذاجة تحرك أقدامكم وسواعدكم؟ هل تصدقون فعلاً أن سوريا ستنسحب من لبنان؟ هل تفكرون حقاً أن الأميركيين سيختلفون مع الأسد من أجلكم؟ أو أن السعوديين سيفكون حلفهم مع دمشق؟ أما هم فلم يكونوا يغوصون في معادلات السياسة. اكتفوا بمسلّمات المقاومة. حتى تغير الزمن. وانتصرت "سذاجة" الحق!
بعد سنة واحدة، جاءت حرب تموز. الميزان نفسه، والإرادة "الساذجة" نفسها. كانت اسرائيل، بكل عدائها وحقدها وآلات قتلها، وكل من معها في كفة. وكان المقاومون في كفة أخرى. لم يتردد ميشال عون. بعد 48 ساعة على اندلاع الحرب، خرج معلناً أن الإنسان سينتصر على الآلة. وأن الحق سيهزم العدوان. مرة أخرى سخروا منه. بعدها، خافوا موقفه. حتى صارت طائرة "إم كا" تحلق فوق منزله. تركت عائلته مخادع نومها. بات بضع ليال وحده، في مواجهة قدرٍ صاحبه ونادمه منذ خيمة الحدود قبل أكثر من نصف قرن. ذات يوم، وسط المنزل المتواضع شبه المهجور، جاءته رسالة واضحة: "سنة 2005، جمعت أيتام رستم غزالة وجعلت منهم فريقاً (على قاعدة أن أيتام غازي كنعان كانوا في الفريق الآخر، بحسب مصدر الرسالة). أما اليوم، فلن يبقى لحسن نصرالله أيتام حتى كي تجمعهم. لقد انتهيت"!. ابتسم قبل أن يجيب فوراً: إنهم أبناء وطني. أنتصر معهم، وأهزم معهم. لا خيار هنا. بل مبدأ!
مرت الأيام، وتكررت فصول "السذاجة" العونية. سنة 2015، قالوا له: لن يأتي سمير جعجع إليك. سذاجة أن تراهن على خطوة منه. فكان 2 حزيران ولقاء "النوايا". بعدها، قيل له: سذاجة أن تفكر بأن جعجع يمكن أن يعلن تأييدك مرشحاً رئاسياً. فكان 18 كانون الثاني تكريس التأييد. بعدها أكدوا له: سذاجة أن تراهن على سعد الحريري. إنها المرة الرابعة التي تنتظر فيها ما تعتقده وعداً منه لك. ثم ها هي ظروفه وظروف المنطقة كلها في مهب ريح مغايرة. لا يمكنك انتظار عودته، ولا انتظار زيارته، ولا انتظار انعطافته... سذاجة في السياسة كل ذاك... وكان يكتفي ببسمته التي عاد بها من لقاء باريس في كانون الثاني 2014. وكان يكتفي بيقين داخلي أن الزعيم الشاب كان صادقاً. وأن الباقي للتاريخ... حتى كان تاريخ أمس، وما قد يكون بعده.
أمس واليوم وغداً، يحلم شعب عون بإحقاق الحق، وإيفاء المستحق. ويتهمون مرة أخرى بالسذاجة في السياسة. ماذا يقول الرجل؟ يكرر ما ختم به حلقات مذكراته ضمن "الرواية الكاملة"، يوم باح: "أمضيت عمري مشدوداً بين اليأس والجنون. ولم أتردد يوماً في اعتناق ما يحسبه الآخرون جنوناً، لكسر ما أراه يأساً"!
أما قيل يوماً عن كل جنرال إنه "مجنون ... حتى ينتصر"؟!