كان هنا قبل نحو نصف قرن. الآن هو هنا، وجهه إلى البحر، حيث سبح و»تشيطن» وعلى الشاطئ ذات مرّة غَفا. يرمي ببصره بعيداً، يُدير كفّيه على «درابزين» جديد، غير الذي كان، ثم يَملأ رئتيه هواء. ظَهره إلى الشارع، أو «الكورنيش» وما تلاه، حيث مشى وعمِل وسهِر ولهَا. هنا قضى «زهرة شبابه». يُحبّ هذه اللفظة، هكذا كما هي، ويُردّدها كثيراً. كانت سائدة بين الناس أيّام صباه. هو أبو خليل، الرجل الستّيني، وتُصبح هويّته كاملة، كما يُفضّل، عندما يُنادى بـ»أبو خليل النجماي». ما زال واقفاً هنا، قبالة خليج مار جرجس، كما حفظت ذاكرة بيروت اسم المكان قديماً، قبل أن تستبدله باسم «السان جورج». هذه النقطة، ضمناً، أمّا المكان الأرحب فـ... هنا الزيتونة. منطقة الزيتونة، أسطورة الزيتونة، أسلوب حياة الزيتونة، نجم الشمال لعاصمة لا تنام. كان فيها كلّ شيء. فيها الجميع. أيقونة في مدينة، في عاصمة كان البعض، قبل أكثر مِن نصف قرن، يتغنّى بوصفها «باريس الشرق» و»عاصمة الجَمال».
رغيف الماوي كان سميك كتير ونقول عنه إذا بتضربه براس اليهودي بأسلِم
وينطلق أبو خليل: «مِن هون، مِن مطرح ما واقف، كنت شِك (أقفز) على الماي. كنت شِك طيّب، وسبّيح نمرة أولى، كنت بعجبك». ألا تُريد «الشكّ» الآن؟ نُمازحه. يردّ: «رزق الله، كبرنا يا عمّي، وحتى لو بدنا نشِك ونسبح فكيف! ما ليك كيف مسيجين كل شي، وليك هالناس هون كلها كيف!». كيف يعني كيف؟ هذا ما لن نسأله إيّاه. الـ»كيف» هذه، كما قالها، بالطريقة والنبرة، وحركة اليد والرأس معاً، وما دلّت عليه مِن نفور، كافية للفهم. الناس لم يعودوا كما كان يراهم. طبيعي. كلّ شيء تغيّر. الأشكال، الأسماء، النمط، طريقة التعبير، أسلوب التواصل، وحتّى «الروح». للأماكن روحها... وهذه تتبدّل، وربّما تموت أيضاً. صاحبنا يُعاني الآن مِن كلّ ذلك. سيُفهم مِن أبو خليل، الذي حافظ على روح شبابيّة فيها الكثير مِن الشوارعيّة، أنّ روح المنطقة لم تعد كما كانت لأنّها «لم تعد لنا». هذه الـ»لنا» يقصد بها الفقراء، أبناء طبقته، مَن يفهمهم ويفهمونه، أو باختصار مَن هم «مثله».
في السابق «كنت تلاقي الكلّ هون». وهذه «الكلّ» يعني بها الأغنياء والفقراء والوسط. في الواقع، كان أكثرهم «طبقة وسطى». يرى الرجل أن أشكال الأحياء مِن الناس، وحتّى الجماد، كلّها، باتت تنتسب إلى «طبقة خاصة». لن ندخل الآن في بحث ماركسي عن الطبقيّة. الآن نقف فقط مع ذاكرة أبو خليل. سيكون علينا أن نخبره أن هذه المنطقة، الزيتونة، التي غيّروا اسمها وجعلوها «زيتوناي باي»... أصبحت ملكاً خاصّاً. لم تعد ضمن الأملاك البحريّة العامّة. لم تعد كما كانت أيّام شبابه. لا يفهم الرجل المسألة بداية، ولا غرابة إن بدا له الشرح التقني - القانوني مِن قبيل السفسطة، لكنّه في النهاية سيتظاهر أنّه فهِم. ربّما فهِم فعلاً، لكن في وجهه كان ما يُشير إلى الإنكار.
ليست المرّة الأولى التي يزور فيها المنطقة بعد الحرب الأهليّة. لكنّه، كما يقول، يشعر في كلّ مرة برغبة في البكاء. لا علاقة للنضال مِن أجل الأملاك البحريّة العامّة برغبته هذه. إنّه الحنين فقط. يُشير بسبابته: هناك كان نادي الضبّاط، وفي ذاك الاتجاه كان «سنسول الخشب» على الطريق نحو «البور» (المرفأ). كان يصطاد السمّك في تلك النقطة. يُعدّل وجهة سبابته: هناك ملهى «الكوكودي» و»الكيت كات» و»الأورينت». هنا كانت أشهر الفنادق وعلب السهر. يبتسم عند ذكر تلك الزوايا تحديداً. لطالما اشتهرت الزيتونة بـ»النسوان». عندما تقال هذه اللفظة هكذا، مقرونة بالزيتونة، عند جيل مُعيّن، ونوعيّة مُحدّدة مِن ذاك الجيل، وأبو خليل مِنهم، فالمقصود يكون: «الدعارة». لم تكن هذه «المهنة» كلّ شيء هنا. كان مِن الخطأ التاريخي اختزال تلك الأحياء بـ»أشياء» معيّنة. كانت هذه الأعمال مقوننة وغير مقوننة. «بنات الليل». «بائعات الهوى». هذا ما تفيض به لغتنا توصيفاً. على هذه السيرة، تتفتق ذاكرة الرجل الجنوبي، بحسب بطاقة الهويّة، والبيروتي ولادة وعيشاً ولهجة، عن ذِكر أحياء ملاصقة للزيتونة، مِنها «سوق الأوادم». هكذا كان اسمه؟ يضحك: «لا، بس هيك كنا نسميه، هو بالحقيقة سوق الشرامـ... وهيدا كان بوسط البلد، خلف مبنى التحرّي مباشرة، ومين ما بيعرفه هيدا!». إنه، وللمفارقة، يتحدّث عن شارع «المتنبّي». كان فعلاً خلف دائرة «البوليس» آنذاك. لا نريد أن نبتعد عن الزيتونة، لكن أبو خليل يعجز عن الفصل، المنطقة عنده كلّها كتلة واحدة. هي بيروت باختصار. عبثاً نحاول إعادته إلى الزيتونة. يعود قليلاً ثم فجأة نجدنا معه عند «بركة أياس» ومقهى «اللاسورز» و»العنتبلي» و»بنك انترا» و»مسرح زقزوق البيروتي» و»درج خان البيض» وسينما «المتروبول» وحلويات وبوظة «عازار». يا إلهي، أبو خليل حاضر، لمن يرغب، أن يملي عليه كتاباً موسوعيّاً. له في كلّ زاوية حكاية. حكايات. أيّام عزّه كانت في سبعينيات القرن الماضي. عزّه مِن ذروة عزّ تلك المنطقة فعلاً. النصف الأول من ذاك العقد، قبل بداية الحرب الأهليّة، كان أعلى مراحل تطوّر بيروت كظاهرة حياتيّة. الرجل ينفع جدّاً في أيّ دراسة «انثروبولوجيّة». إنّه ذاكرة شفويّة، ممتلئة، تُجيد التعبير... وتمشي على قدمين.
نعود إلى سرد صاحب «الكرش» المكوّر، الذي يُسعده أن يضرب عليه بين فكرة وأخرى، كجزء من مزاجه المازح، إلى الزيتونة مِن جديد. يعود إلى سبابته مجدّداً، دالاً إلى مكان «مقهى الحاج داوود». إنّه أحد أشهر مقاهي بيروت القديمة على الإطلاق. أن تأكل الفول المدمّس وحمص «المسبّحة» على البحر تماماً. يقول: «كنت أهوى السباحة هناك. كنت أتصيّد وأبيع السمك لقهوة الحاج داوود، وكمان كنت بيع لقهوة البحري. هيدي كانت قهوة صايرة متل جزيرة، بقلب الماي. كنا نسهر هونيك على الشط لآخر الليل، وأوقات ننام على الشط، وأوقات كنا نولّع خشب ونشوي سمك، ناكل ونضرب بيرة وننام. أيّام يا عمّي أيّام. ما كنت روح على مسبح عجرم، قدام شوي، رحت مرّة أو مرتين، مع أنّه كان مختلط، كانت الدخولية بنص ليرة. كان فخم، بس شو بدي فيه. الشط ببلاش، وشو ما بدّك بتلاقي هون».
مِن غرائب الحرب أنها ليست مَن يُجهز على روح مدينة، بل شيء آخر يأتي بعدها مباشرة

مِن هنا، مِن الزيتونة، مِن المكان الذي تعوم فيه اليخوت الفارهة، وتكثر فيه الوجوه «البلاستيكيّة»... أطلّت النائبة بهيّة الحريري نهاية تمّوز الفائت. الحريري، هذه المفردة، أكثر مِن كونها مجرّد عائلة، ستصبح بعد حقبة الحرب الأهليّة، ومع حقبة «سوليدير» وما سيليها، عنواناً لتكديس الأموال والمشاريع الضخمة على حساب طمس ذاكرة مدينة. جاءت بهية مُكرمة مِن جانب مهرجان «بياف» السنوي، ومزهوة قالت: «للذين أرادوا أن يقطعوا الطريق على بناء الدولة المدنيّة الحديثة، أحب أن أقول لهم من هذا المكان، لا يوجد قوى تمنع اللبنانيين من بناء دولتهم المدنيّة الحديثة». هكذا تفهم الحريري «الحداثة». السطو على الأملاك البحريّة العامة حداثة! الأملاك التي لو أعيدت إلى الدولة، الدولة لا السلطة، وتم استثمارها بما تستحق، لأمكن سدّ الدين العام، لكنها حداثة! أن يكون محمد الصفدي، حليف «الحريرية» في أسلوب العيش، قبل أيّ شيء آخر، وزيراً للأشغال العامة، فيوقّع لنفسه، لشركته، على شرعيّة بناء «الزيتوناي باي»... فهذه حداثة! حداثة «بلاستيكية» كأصحابها، تمرّ فوق السجّاد الأحمر، على وقع الأنخاب، في مهرجان «بياف» وأخواته. هذه المهرجانات التي نشط وينشط سعد الحريري في افتتاحها. سعد ابن أخ بهيّة، ابن رفيق الحريري، ابن المؤسس لسلوك «سحب أرواح» الأماكن. إنّها «طريقة عيش». طريقة حقّاً. صدقت بهيّة، التي، مع صدى مفرقعات انتصار طريقتها، وقفت تقول: «الشكر الكبير إلى منظمي هذا المهرجان، على إصرارهم وعزيمتهم وإرادتهم، لإبقاء عاصمتنا الحبيبة حيّة بهذه الطريقة».
لا يزال أبو خليل واقفاً مكانه. يرمقهم مِن فوق. لو كان لوجهه أن ينطق لقال مستعجباً: «مَن هم هؤلاء القوم». يعود بالذاكرة مرّة أخرى، إلى الأشياء التي لم تعد حتّى أثراً بعد عين، لم يعد لها أيّ أثر أصلاً: «مِن هون كنّا نطلع على سينما روكسي، عصير الزين، كباريه نادي الشرق، مطعم لوروندا، الفاكهاني، سوق الأرمن للأحذية، فرن الشامي في شارع المعرض، التياترو الكبير، سينما بيبلوس وسينما الزهراء... الله يلعن يلي جعل هيديك الأيام وذكرياتها تروح». على بساطته يقول: «ما عادت حلوة هلق». ماذا تقصد؟ يحاول الإيضاح: «مش مِن عاداتنا هلق». لا بد مِن جهد مضاعف لفهم «قفشات» أبو خليل «الإثنوغرافيّة». صاحبنا لم يُحصّل سوى شهادة الخامس ابتدائي، أو «السلتفيكا» (هكذا يلفظها). يتذكّر فجأة مطعم «نيفا عميرة». أكلة الـ»نيفا» لا يعرفها كثيرون مِن جيل اليوم. وإلى «اللحمة المشويّة» عند موقف عاليه وبحمدون، مِن حيث ولد مثل شعبي رُدّد طويلاً: «خمس سياخ فشّة بربع مع رغيف وهوّيلو». الربع هنا هو ربع ليرة. نوعيّة أرغفة الخبز في المطاعم آنذاك مختلفة عن أرغفة اليوم. الرغيف الشهير في تلك الحقبة كان اسمه «الماوي». كان مخصصاً للسندويشات، ولكن «أساساً كان الخبز هيديك اليوم ينباع بالكيلو، مش بالربطة مثل هلق، ورغيف الماوي كان سميك كتير، كنّا نقول عنه إذا بتضربه براس اليهودي بأسلِم». يضحك أبو خليل. كان لديه أصدقاء مِن اليهود اللبنانيين في منطقة وادي أبو جميل، ولكن «يا زلمي اختفوا فجأة».
يتصوّر البعض أن نمط الحياة البيروتي القديم، أو الـ»أبو خليلي» تحديداً، انتهى مع بداية الحرب الأهليّة عام 1975. هذا غير دقيق. لقد تغيّرت الأمور قليلاً، تقول الذاكرة الحيّة، لكن الحياة ظلت تشبه نفسها حتى انتهاء الحرب الأهليّة. هذه مفارقة لافتة. حبّ أبناء البلد لذاك الفضاء العام كان يدفعهم لارتياده، حتى في أيّام الحرب، وهناك «كنّا عندما يندلع اشتباك ما نتوجّه إلى بعض المتاريس، التي باتت مشهورة عندنا، فنختبئ، ثم تعود الحياة إلى طبيعتها». شهد الرجل لحظة إنزال قناص ياباني، مِن مبنى «هوليدي إن» الشهير، في المعارك بين «الكتائب» و»الحركة الوطنيّة».
شهد ذلك ثم عاد إلى عمله. هكذا، لسنوات، يقاتل «النمط» للبقاء، فيعود إلى حيويته، بعد كل جولة عنف بين المتحاربين. مِن غرائب البلدان أن لا تكون الحرب هي مَن يُجهز على روح مدينة، بل شيء آخر، شيء يمكن أن يأخذ شكل «سوليدير» مثلاً، أو وزير أو عائلة أو مافيا سياسيّة. شيء يأتي بعد الحرب مباشرة، هو حرب حقيقيّة، إنّما يتدثّر لباس السِلم، فيُدمّر ما بقي مِن ذاكرة... ويقتل ما عجزت الحرب عن قتله.