ما يكتشفه المرء من هذه الوثائق الأميركيّة الرسميّة حميميّة العلاقة بين حزب الكتائب اللبنانيّة والحكومة الأميركيّة (أي إن مقولة أن حزب الكتائب اضطرّ مرغماً إلى الاستعانة بـ»الشيطان»، أي إسرائيل، في سنوات الحرب الأهليّة لأنه كان معزولاً، ما هي إلا واحدة من أكاذيب الحزب الذي كان يتنعّم مبكراً بدعم خليجي وأردني وأميركي، حتى لا نتكلّم عن دعم غربي آخر لا وثائق عنه إلى الآن). كذلك إن أحزاب الكتائب والأحرار والكتلة الوطنيّة، أو بالأحرى إن شخص كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّة (الذي افترق عن حلفائه في مطلع الحرب والذي لا يبرز في الوثائق كما يبرز شمعون والجميّل، لكن الأخيرين ينطقان في اللقاءات مع الأميركيّين باسم «الحلف الثلاثي» آنذاك) كانوا مشاركين فعليّاً في الحكم في عهد شارل الحلو وسليمان فرنجيّة. يبدو أن زعماء الموارنة تكتّلوا في قيادة جماعيّة عندما بدأ نظام الهيمنة الطائفي الذي زرعه الاستعمار الفرنسي، ورعاه الغرب في ما بعد، يتعرّض للاهتزاز والتهديد المباشر.
حلو في رسالة سريّة إلى إسرائيل: أتفهّم المشكلة التي يُشكّلها الفدائيّون ضد إسرائيل
وقد ضغط الأحرار والكتائب والكتلة الوطنيّة على شارل حلو لعدم الرضوخ للمزاج الشعبي والرسمي العربي بقطع العلاقة مع دول الغرب بعد حرب ١٩٦٧. والحلف الثلاثي (الذي فاز بنجاح باهر في انتخابات ١٩٦٨ ــ ومن المُرجّح بقوّة ــ بناءً على العلاقة التي جمعت أحزابه مع حكومات الغرب، أنه تلقّى معونات أميركيّة مباشرة في الحملات الانتخابيّة، لكن الوثائق لم تظهر بعد في ذلك) لم ينتظر إلى نهاية شهر حزيران كي يصدر بياناً يطالب فيه بـ»تدويل لبنان» والحصول على ضمان خارجي لحياده (كأن لبنان كان مُشاركاً في حرب حزيران ــ راجع كتاب جيمس ستوكر، «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، ١٩٦٧-١٩٧٦»، عن دار نشر جامعة كورنيل، ص. ٣٢). لا بل إن الجميّل أصرّ على حلو أن يعود السفير الأميركي على عجل بعد مغادرته ردّاً على إجماع عربي (ولبناني شعبي). وعرض على الأميركيّين نشر قوّات ميليشيا الكتائب لحماية أمن السفارة الأميركيّة. إن قراءة التقارير من تلك الفترة يؤكّد بصورة قاطعة أن الميثاق الوطني المزعوم لم يكن إلا كذبة انطلت على الزعماء المسلمين في لبنان، وكانت بنودها سارية فقط على فريق واحد، في رفض التحالف أو الاندماج مع المحيط العربي، فيما كان كل رؤساء الجمهوريّة الذين تعاقبوا بعد الاستقلال ــ بالتحالف مع الزعماء الموارنة ــ متحالفين سرّاً وبقوّة مع الدول الغربيّة، مُطالبين على الدوام بتدخّل عسكري أميركي أو فرنسي أو حتّى إسرائيلي في صالحهم. لقد خالف الزعماء الموارنة كل بنود «الميثاق الوطني» فيما كانوا يعظون الغير بجدوى «الميثاق» فقط كي يعزلوا لبنان عن محيطه العربي (ولم يكن المحيط العربي خاضعاً لمشيئة حكّام الخليج آنذاك).
ويرد في الوثائق أن حزب «الأحرار» و»الكتائب» ألحّاً في شهر حزيران وتمّوز من عام ١٩٦٧ على السفارة الأميركيّة للحصول على السلاح والمعونات الماليّة. وكتب السفير الأميركي إلى حكومته في هذا الصدد أنه ــ وإن لم يوصِ بتلبية الطلبات الواردة ــ يوصي بأن تُبلَّغ «اللجان المعنيّة» في الإدارة الأميركيّة بالطلبات في حال تغيُّر توصيته في هذا الشأن. وفي حزيران من عام ١٩٦٧، طلب شمعون رسميّاً من الحكومة الأميركيّة تسليحاً ومساعدات ماليّة باسمه وباسم بيار الجميّل وريمون إدّه، وذلك للتصدّي لنفوذ كمال جنبلاط «والمتطرّفين المسلمين». حتى شيخ العقل اليزبكي، رشيد حمادة (كان للدروز شيخا عقل يومها، والوثيقة الأميركيّة وستوكر أشارا إلى حمادة فقط كـ»زعيم درزي») طلب سلاحاً ومالاً من السفارة الأميركيّة في بيروت في ذلك الشهر. وكأن الردّ على هزيمة ١٩٦٧ كان عند كل هؤلاء في تعزيز الحضور الميليشاوي لأعداء المقاومة الفلسطينيّة واليسار في لبنان (وحلفاء العدوّ الإسرائيلي كما سيتضح بعد قليل). ولم ينسَ حمادة هذا، المتحالف مع شمعون (والذي ذكّر بتحالفه مع «الحلف الثلاثي») أن يحذّر السفارة الأميركيّة من عواقب تجهيز الاتحاد السوفياتي لميليشيا كمال جنبلاط. والنائب اللبناني في حينه، أندريه طابوريان، التقى بالديبلوماسي الأميركي تالكوت سيلي في واشنطن، أثناء زيارة الأوّل للولايات المتحدة كي يطلب هو الآخر السلاح من أميركا (لم يتضمّن كتاب ستوكر طلب طابوريان هذا، لكنه نشر الوثيقة على صفحته). وورد في الوثيقة أن طابوريان أكّد أن السلاح لن يُستعمل إلّا ضد «المتطرّفين» وأنه سيردع «التحرّك الشيوعي المعادي» (ص. ١ من الوثيقة التي نشرها ستوكر). (وطابوريان هو الوحيد الذي ذكر في لقائه مع الأميركيّين إسرائيل بالسلب، وأشار إلى اقتناع فريق من اللبنانيّين بخطورة المطامع الإسرائيليّة في لبنان).
لعب مطران مقيم في القدس من أصل لبناني دور الرسول بين حكومة العدوّ والرئيس شارل حلو

أما العماد إميل بستاني، قائد الجيش، فقد التقى بالقائم بالأعمال الأميركي ــ بطلب من شارل حلو ــ وسأله عن إمكانيّة مساعدة الحكومة الأميركيّة للجيش اللبناني في السيطرة على «معارضة من قبل عناصر إسلاميّة في لبنان» أو للحدّ من جهود «عناصر شيوعيّة خارج لبنان» للقيام بأعمال «ضد مصالح أميركا أو ضد إسرائيل» (ص. ٣٣). وحذّر بستاني من أن الحكومة يمكن أن تنساق وراء دعوات عربيّة لمقاطعة أميركا وبريطانيا من دون «ضمانة أميركيّة واضحة». وفهم القائم بالأعمال أن طلب المساعدة يشمل طلب مساعدة عسكريّة. وعندما صدرت قرارات عن مجلس الوزراء اللبناني لمقاطعة شركات أميركيّة (مثل «كوكا كولا» و»فورد» و «أر.سي.إي») أكّد شارل حلو للقائم بالأعمال الأميركي أن القرارات لن تنفَّذ أو ستنفَّذ ببطء شديد. واللافت أن الحكومة الأميركيّة لاحظت أن الموقف الإسرائيلي من لبنان لا يتعلّق فقط بوجود الفدائيّين على أرضه، واليسار اللبناني، بل إن هناك أطماعاً إسرائيليّة في لبنان. وبالرغم من أن لبنان لم يشارك في الحرب بأي صورة من الصور، فإن الحكومة الإسرائيليّة أرهبت لبنان عبر اعتبار اتفاق الهدنة مُلغىً، كذلك لمّح رئيس الحكومة الإسرائيلي في شهر أيلول إلى أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وعندما قصفت إسرائيل حولا في أيّار ١٩٦٨، حاولت الحكومة الأميركيّة إفهام حليفتها بأن قدرة الحكومة اللبنانيّة على «محاربة الإرهاب» الفلسطيني وعلى الحفاظ على انحياز الحكومة نحو الغرب تضعف. وإلحاح الميليشيات اليمينيّة ذات القيادة المارونيّة في طلب التسلّح لم يتوقّف. ففي أكتوبر من عام ١٩٦٨ أبلغ قيادي كتائبي القائم بالأعمال الأميركي أن الحزب قد يتقدّم بطلب تسلّح لميليشيا الكتائب، وأن للحزب قدرة قتاليّة بعدد ٥٠٠٠ رجل وقوّة كوماندوس بعدد يراوح بين ٥٠ و٧٠ (ص.٣٧). وأكّد القائد الكتائبي ان للحزب ما يكفيه من السلاح الخفيف، لكنه يحتاج إلى «توحيد معايير التسلّح» وإلى سلاح ثقيل. لكن التقرير أوضح أن الحكومة الأميركيّة لن تلبّي الطلب الكتائبي. حتى النائب الشمعوني، فضل الله تلحوق، طالب الحكومة الأميركيّة بسلاح لمواجهة جنبلاط. (كان هذا في زمن كان فيه الشيوعيّون اللبنانيّون يصرّون فيه على «النضال البرلماني» الصرف).
أما الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت في ديسمبر عام ١٩٦٨ الذي كان فيه إسكندر غانم قائد منطقة بيروت، وقد تلقّى تحذيرات قبل الاعتداء من أجل حماية المنشآت المدنيّة بما فيها المطار (وغانم هذا كان هو الرجل نفسه الذي لامه صائب سلام على تخاذله في اعتداء نيسان ١٩٧٣ ــ عندما كان قائداً للجيش ــ واغتيال قادة المقاومة في فردان، ما أدّى إلى استقالة سلام بسبب رفض سليمان فرنجيّة صرفه من قيادة الجيش، أو محاسبته على أقلّ تقدير) فقد زاد من قلق الحكومة الأميركيّة على استقرار النظام اللبناني الحليف. لكن الحكومة الأميركيّة حوّلت الاعتداء الإسرائيلي الإرهابي على لبنان إلى مناسبة لتشجيع التفاوض وتبادل الرسائل بين الحكومة اللبنانيّة والحكومة الإسرائيليّة. ووجّه ليفي أشكول رسالة إلى الحكومة اللبنانيّة نوّه فيها بالسلوك «التعاوني» (ص. ٤١) للحكومة اللبنانيّة (مع العدوّ) على مدى عشرين عاماً، لكنه حذّر من مغبّة من أي اعتداء من لبنان على إسرائيل. وكان شارل حلو، من دون علم رئيس حكومته ومجلس النوّاب، يسعى إلى تدخّل غربي أو نشر قوّات من الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني لحماية حدود الكيان الصهيوني من العمليّات الفدائيّة (لكن إسرائيل هي التي رفضت الفكرة التي كان ريمون إدّة من دعاتها العلنيّين).
«الأحرار» و«الكتائب» ألحّاً في شهر حزيران وتمّوز من عام ١٩٦٧ على السفارة الأميركيّة للحصول على السلاح والمعونات الماليّة

لكن النيات التخريبيّة والفتنويّة للفريق اليميني تبدّت في أوائل عام ١٩٦٩، عندما طلب كميل شمعون مساعدة عسكريّة أميركيّة (لحزبَي الكتائب والأحرار) من أجل إسقاط حكومة رشيد كرامي عبر الإضرابات والتظاهرات (لكن طلب السلاح يتعدّى فعل التظاهرات، وقد رفض الديبلوماسي الأميركي طلب شمعون هذا ــ حسب الوثيقة). وتقدمّ حزب الكتائب بطلب مماثل في نفس الشهر. وقد طلب شارل حلو من السفير الأميركي ثني الكتائب والأحرار عن خططهم وأنها يمكن أن تؤدّي إلى معركة قد يخسرونها وقد تطيح أيضاً «التوازن الطائفي» في البلد. وحسب ما ورد في تلك الوثائق، فإن موقف رشيد كرامي آنذاك لم يعارض الطلب من الدول الخليجيّة (عبر راعيتها الأميركيّة) التأثير في الفدائيّين لوقف نشاطهم من لبنان، وإن كان يخشى إعلان ذلك. (ص. ٥٦).
وفي شهر حزيران 1969 طالب الجميّل وشمعون (مرّة جديدة) السفير الأميركي بتسليح لميليشياتهم، كذلك تقدّم شمعون بطلب رسمي من نائب رئيس البعثة الأميركيّة بسلاح خفيف لـ «حماية المسيحيّين». وفي لقاء في السفارة، أدان الجميّل تخلّي الحكومة الأميركيّة عن أصدقائها في لبنان، فيما حذّر فضل الله تلحوق (الذي قدم طلباً هو الآخر للتسلّح) من أخطار تتهدّد لبنان بسبب عدم تلبية طلبيات التسلّح. لكن موقف السفير الأميركي، وفق المداولات في داخل الإدارة الأميركيّة، بدأ بالتغيّر لمصلحة تسليح «المسيحيّين». لكن المسؤول الأميركي تالكوت سيلي (عمل في ما بعد سفيراً في دمشق وبادر للاتصال بمنظمّة التحرير الفلسطينيّة في السبعينيات، مخالفاً تعليمات كيسنجر) رفض فكرة السفير وحثّ على إقناع الزعماء الموارنة بانتهاج الاعتدال والتعايش مع المسلمين.
لكن شارل حلو كان يتواصل سرّاً مع الإسرائيليّين، كما أخبر أبا إيبان الحكومة الأميركيّة في شهر أيلول. وفي رسالة سريّة ومباشرة وجّهها الرئيس اللبناني إلى إسرائيل، قال لهم إنه «يتفهّم المشكلة التي يُشكّلها الفدائيّون ضد إسرائيل، لكن الحكومة لا تستطيع أن توقف التسلّل كليّاً» (ص. ٥٨). وعندما وصل الجواب الإسرائيلي إلى حلو، ومفاده أن الحكومة الإسرائيليّة ستتخذ «الإجراءات الدنيا لحماية مواطنيها»، وصفه بأنه «يُظهر تطوّراً إيجابيّاً في الموقف الإسرائيلي». وقد أخبرت الحكومة الإسرائيليّة الحكومة الأميركيّة أن «لبنانيّين مرموقين» كانوا يتواصلون معها سرّاً وأنهم «يرحّبون باعتداءات إسرائيليّة على قواعد الفدائيّين بين الحين والآخر».
لكن الموقف الأميركي تغيّر بحلول شهر أكتوبر من عام ١٩٦٩، حين عقدت «مجموعة العمليّات الخاصّة في واشنطن»، وهي لجنة حكوميّة تجتمع للتعامل مع الأزمات، اجتماعاً خاصّاً للتباحث في شأن التدخّل في لبنان. وتركّز البحث على المفاضلة بين تسليح الجيش اللبناني وتسليح «الميليشيات المسيحيّة». ووافق كل المجتمعين على وضع خطة تكون موضع التنفيذ لتسليح الميليشيات اليمينيّة، لكن لم يكن واضحاً الظروف التي يمكن فيها مباشرة عمليّة التسليح. وزارة الخارجيّة رأت أن سقوط الحكم في لبنان يمكن أن يكون الحافز للتسليح. أما ممثّل وكالة المخابرات الأميركيّة، فاقترح تسليح الميليشيات عبر شركة أميركيّة خاصّة (مثل «إنترأرمكو») لمدّ الميليشيات بالسلاح، على أن تتكفّل الحكومة الأميركيّة بالنفقات. وبُحث في أمر التسليح عبر عمليّات إسقاط من الجوّ (ص. ٦٣). وعندما تساءل مسؤول أميركي عن سبب عدم المباشرة بتسليح الكتائب على الفور، أجابه كيسنجر بأن تسليح الجيش اللبناني مماثل لتسليح الكتائب، لأن الجيش واقع تحت «سيطرة ضبّاط متعاطفين مع الكتائب». لا نعرف حسب الوثائق ماذا حصل بعد هذا الاجتماع، لكن الاستنتاج بمباشرة التسليح يكون منطقيّاً، خصوصاً أن كيسنجر أخبر نيكسون بأنه بالإضافة إلى التسليح، فإن الحكومة الأميركيّة ستقوم أيضاً بـ»عمليّات سريّة». لكن وزارة الدفاع حذّرت من أن تسليح الكتائب سيؤدّي إلى صراع طائفي. ومن الأكيد أن الحكومة الأميركيّة قامت بتحريك أساطيلها في البحر على بعد ٤٥٠ ميلاً من لبنان لدعم النظام اللبناني. وفضّل كيسنجر تدخّلاً إسرائيليّاً على التدخّل الأميركي المباشر في لبنان.
بعد العدوان على المطار، وجّه ليفي أشكول رسالة إلى الحكومة اللبنانيّة نوّه فيها بسلوكها «التعاوني» مع العدوّ على مدى 20 عاماً

وفي موازاة المفاوضات التي أدّت إلى اتفاقيّة القاهرة، قامت الحكومة الأميركيّة بالاستعانة بتاجر السلاح الأميركي ــ اللبناني المعروف، سركيس سوغانليان (الذي لعب دوراً كبيراً في تسليح الميليشيات اليمينيّة في سنوات الحرب في ما بعد، ولنا عودة إليه) لإمداد قوى الأمن الداخلي بوسائل عسكريّة «للسيطرة على المخيّمات وعلى التظاهرات» (ص. ٧١). ورأت السفارة الأميركيّة في تسليح قوى الأمن والجيش أنه لا يختلف عن تسليح الميليشيات، وأكدت قيادة الجيش اللبناني أنها ستتولّى هي تسليح الميليشيات وتجهيزها عندما يحين الوقت. وكان ممثّلون عن الجميّل وشمعون وإدّة وسليمان فرنجيّة يسعون إلى التسلّح في لبنان، أو في خارجه. (قدّمت الميليشيات طلبات تسلّح من الحكومة الفرنسيّة أيضاً).
ومن العمليّات السريّة التي اتفقت عليها الحكومتان الأميركيّة واللبنانيّة (عبر لقاء بين ميشال خوري والسفير الأميركي) محاولة «إحداث الشقاق» (ص. ٧٣) بين الفدائيّين والأهالي في جنوب لبنان. وقدّم ميشال خوري في كانون الثاني ١٩٧٠ طلباً رسميّاً من أميركا في هذا الشأن، عبر تقديم مساعدات ماليّة سريّة لـ»مؤسّسات دينيّة وسياسيّة» في جنوب لبنان، أو عبر الحصول على مساعدات من شاه إيران بوساطة أميركيّة. لكننا لا نعرف طبيعة تلك العمليّات السريّة لإشعال الفتنة بين الأهالي والفدائيّين (قد يكون قصف العدوّ للقرى من نتاج تلك العمليّات).
وعندما صعّد العدوّ الإسرائيلي من غاراته على لبنان في الأشهر الثلاثة الأولى من عام ١٩٧٠، لم تتوقّف الاتصالات الرسميّة المباشرة بين الحكومة اللبنانيّة وحكومة العدوّ. ونقل «مطران مقيم في القدس من أصل لبناني» (لم يرد اسمه في الوثائق)، وكان يلعب دور الرسول بين حكومة العدوّ ورئيس الجمهوريّة اللبنانيّة تهديداً من موشي دايان بتحويل لبنان إلى صحراء. لكن شارل حلو ردّ على التهديد المباشر بالودّ والاحترام لإسرائيل (وقال إنه كان متحفّظاً في ودّه خشية تسرّب مضمون الرسالة التي بعثها إلى دايان.) وفي رسالته، أوضح حلو أن لبنان يلعب في الماضي والحاضر دور «شرطي إسرائيل»، مع أنه لا يستطيع أن يعترف بذلك. وأضاف حلو أن تدمير لبنان سيكون بمثابة تدمير إدارة شرطة حيفا. وزاد حلو عاملاً طائفيّاً يحمل تعاطفاً مع الصهيونيّة، إذ قال «إنه ليست في مصلحة إسرائيل تدمير الدولة الديموقراطيّة غير الإسلاميّة الوحيدة وذات التنوّع الديني في المنطقة. وإن اللبنانيّين بالرغم من مشاكل تعتري تفهّمهم، فإنهم على الأقل يفهمون مشاكل إسرائيل، وأن هذا قد يشكّل رصيداً قيّماً لإسرائيل عندما تقرّر أن تندمج ــ وليس فقط أن تكون في ــ الشرق الأوسط».
(يتبع السبت المقبل)

إسرائيل تحترم فؤاد شهاب



في أزمة نيسان 1969، هنأت الحكومة الأميركيّة رئيس الجمهورية شارل حلو على استعمال القوّة لقمع المتظاهرين. وزاد شارل حلو من رغبته في طلب تدخّل عسكري أميركي (أو «آخر»)، لكن السفير الأميركي أبلغ ميشال خوري، مبعوث حلو الشخصي، أن عليهم ألّا يتوقّعوا تدخّلاً عسكريّاً أميركيّاً في لبنان (ليس مباشراً، على الأقل). عندها، أجابه خوري بأنهم تلقّوا نفس الجواب من فرنسا، ما يوحي أن حلو كان قد طلب تدخلاً عسكريّاً فرنسيّاً ضد الفدائيّين واليسار في لبنان. لكن حلو لم يكتفِ بالأجوبة الفرنسيّة والأميركيّة، إذ هو أرسل في سؤال عاجل إلى السفير الأميركي سائلاً: «في حالة القلاقل المدنيّة التي قد تكون فوق طاقة قدرات قوى الأمن اللبنانيّة المحدودة، ما هو احتمال المساعدة الخارجيّة لمساعدته في إعادة الاستقرار؟» (ص. ٥٠). لكن جواب السفير خيّب آماله مرّة أخرى.
وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الأميركيّة تخيّب فيه آمال الزعماء الموارنة (وحلفائهم) في طلب تدخّل عسكري أميركي، كان الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، يعقد اجتماعاً لمجلس الأمن القومي لدراسة إمكانيّة القيام بتدخّل عسكري أميركي مباشر على غرار تدخّل ١٩٥٨ في لبنان (ص. ٥٠). وأخبره وزير دفاعه أن القوّات الأميركيّة جاهزة للقيام بمهمّة كهذه. لكن ستوكر يستنتج أن الحكومة الأميركيّة تخلّت عن فكرة التدخّل إلّا في حالات يتعرّض فيها «المسيحيّون أو الأجانب» لأخطار أو لترحيل الأميركيّين. لكن حلو لم يتوقّف بالرغم من الإجابات الأميركيّة عن تكرار طلب المساعدة أو طلب التدخّل، لأن ذلك يقوّيه، ولو من باب «الخيار الأخير». وبناءً على إلحاح حلو، بدأت الحكومة الأميركيّة بالبحث في سيناريوهات تدخّل عسكري من نوع إرسال الأسطول السادس. وعلّق السفير الأميركي على موقف حلو بأنه كان يفكّر «كرئيس مسيحي» يسعى لحماية المسيحيّين. وكانت الحكومة الأميركيّة تحثّ حلو على طلب قوّة تدخّل تابعة للأمم المتحدّة للحدّ من نشاط الفدائيّين، لكن حلو طالب أيضاً بقوّة تدخّل أميركيّة تمهّد لتدخّل الأمم المتحدة. وبحثت الحكومة الأميركيّة مع مدير «الأنروا» في إمكانيّة لعب المنظمّة «الإنسانيّة» دوراً أمنيّاً ضد الفدائيّين، لكن الاعتراض القوي من مقرّ الأمم المتحدة قضى على الفكرة الأميركيّة.
واجتمع كميل شمعون وبيار الجميّل في شهر نيسان مع السفير الأميركي ضمن الحملة المستمرّة في طلب المساعدة (لكن شمعون تحفّظ في اللقاء لعلمه من الجميّل برفض الطلب من قبل أميركا). لكن شمعون ذهب أبعد من ذلك، إذ اقترح على السفير الأميركي أن تقوم الحكومة الإسرائيليّة بتوجيه تحذير مباشر وعلني إلى لبنان حول نشاط الفدائيّين «لعلّ ذلك يؤثّر في المسلمين المتطرّفين الذين يطالبون بحريّة حركة مطلقة للفدائيّين». وبعد اللقاء مع شمعون، التقى السفير الأميركي مع فؤاد شهاب وسأله رأيه في أن تقوم الحكومة الإسرائيليّة بتحذير لبنان لتخويف مؤيّدي العمل الفدائي فيه. وطلب شهاب مهلة ٢٤ ساعة للردّ، ثم أخبر السفير بأن التحذير الإسرائيلي هذا سيساعد (ص. ٥٣). لكن السفير الأميركي امتنع عن نقل الطلب اللبناني خوفاً من تأليب الرأي العام العربي ضد إسرائيل والحكومة الأميركيّة. ولم يكتفِ فؤاد شهاب بهذا، لا بل طلب أن تزيد قوّات الاحتلال الإسرائيلي من دوريّاتها على الحدود مع لبنان لمنع الفدائيّين من الحركة (سبق فؤاد شهاب جماعة ١٤ آذار في تقديم النصح للعدوّ الإسرائيلي في عدوانه). وعبّرت الحكومة الإسرائيليّة، من خلال سفارتها في واشنطن، عن «احترامها» لشهاب. وفي هذا السياق، وبعد أن فقد شارل حلو الأمل في تدخّل عسكري أميركي لمصلحة النظام الطائفي الحاكم في لبنان، قرّر التفاوض مع الفدائيّين.