بعد حاجز المدفون السيئ الصيت، تبادرك لافتات ترحيبيّة بدخول محافظة الشمال، من بوابتها الأولى كفرعبيدا. تلك البلدة الممتدة على الساحل، كان شاطؤها مرشّحاً لإعلانه محميّة بحريّة عام 2009، لكن معارضة رئيس بلديّتها نسفت الخطّة، إذ سبق أن وافق على مشروع يشرع السطو على الأملاك العموميّة البحريّة، ويحوّل معالم الشاطئ الصخري الطبيعيّة إلى منتجع سياحي ضخم. وبقي قرار القضاء على شاطئ كفرعبيدا مؤجّلاً منذ عام 2007، إلى أن أعيد إحياؤه في آب الماضي على طاولة مجلس الوزراء.
بحر اللبنانيين لكبار المستثمرين

عام 2007 أقرّ مجلس الوزراء، في خضمّ أزمة الميثاقيّة التي ولّدها خروج الوزراء الشيعة، المرسوم النافد حكماً رقم 955 والقاضي بالترخيص لشركة "إنماء الشواطئ اللبنانيّة" بإشغال مساحة 37026 متراً مربّعاً من الأملاك العموميّة البحريّة، متاخمة للعقارات رقم 262 و263 و297 من منطقة كفرعبيدا العقاريّة (تبلغ مساحتها مجتمعة 19357 متراً مربّعاً وتملكها الشركة المستثمرة). بحسب المرسوم، أجيز للشركة استثمار 11483 متراً مربّعاً (أملاك عموميّة بحريّة قابلة للردم خفضت لاحقاً إلى 4000 متر فقط مجاز ردمها)، 6450 متراً مربّعاً (منطقة صخريّة طبيعيّة)، و19093 متراً مربّعاً (مسطح مائي)، وأجيز لها إقامة تجهيزات رياضيّة وسياحيّة مع أحواض سباحة وحدائق. يومها شكّل المرسوم نموذجاً عن الصفقات الفاسدة، التي تشرّع السطو على أملاك الناس المشتركة، إذ ترافق مع إصدار مرسوم آخر يعطي وزير الأشغال العامّة والنقل (آنذاك)، محمد الصفدي، الحقّ بإقامة مرفأ خاصّ لقصره، شيّده على الأملاك العموميّة البحريّة في البربارة.
أزمة ميثاقيّة مجلس الوزراء التي استحدثتها، أخيراً، مقاطعة وزراء التيار الوطني الحرّ للجلسات، أعادت المشروع إلى مجلس الوزراء، ففي 25 آب الماضي وضع المرسوم مع خريطة معدّلة على طاولة المجلس من دون أن يكون مدرجاً على جدول الأعمال، بعدما وصل موقعاً من وزير الأشغال العامّة والنقل غازي زعيتر باعتباره صاحب الاختصاص، ووزير الاتصالات بطرس حرب الذي عاد وأبدى استغرابه من وجود توقيعه، قبل أن يسترسل بتعداد إيجابيّات إنشاء مشاريع ذات استثمارات خاصّة على أملاك عموميّة.

ذكريات محفورة في الصخور

يعدُّ شاطئ كفرعبيدا من البقع العذراء على طول الساحل اللبناني، وهو واحد من 31 موقعاً طبيعياً اختارها "مجلس الإنماء والإعمار" لتحويلها الى محميّات طبيعيّة، إذ تتكوّن فيه صخور طبيعيّة هي الأندر على البحر المتوسط، حوّلته الى لوحة خلّابة، فاستحق لقب "موناليزا الشمال". يقصده اللبنانيون من مختلف المناطق، من القلمون وطرابلس والبترون، ومن بيروت أيضاً. يدخله سنوياً أكثر من 15 ألف شخص، هؤلاء يجدون فيه مساحة حرّة لا تحدّها جدران المنتجعات الاسمنتيّة، وتحيط به بعض المطاعم الصغيرة والحانات، فيما يعدّ مصدر رزق لعشرات الصيادين من طرابلس والبترون. بالنسبة لريمون (صيّاد) "هذا البحر هو المتنفّس الوحيد لنا، نقصده يومياً للسباحة وصيد السمك، يقصده الشباب والعائلات ومحبّو الرياضات البحريّة، وتعلو منه أصوات الموسيقى والفرح". يطلب مرافقته إلى إحدى الصخور، ليدّلنا إلى منقل شوي متروك "هناك أيام للمشاوي أيضاً، ويوم الأحد ما في حدا يحطّ إصبعو من العجقة، قبل أن يدعونا للحاق به ليعرّفنا إلى أبو أحمد وأم أحمد من القلمون، الثنائي الذي يقصد كفرعبيدا يومياً، منذ عشرين عاماً، لاصطياد السمك. لهؤلاء، وللـ 15 ألف شخص، ذكرياتهم المهدّدة بالزوال.

مواصفات المشروع وأضراره

"إنماء الشاطئ وإحياؤه" من صلب اهتمام شركة "إنماء الشواطئ اللبنانيّة"، صاحبة المشروع، والمملوكة من أفراد من آل عبد الأحد وتتخصّص في تنفيذ المشاريع السياحيّة والعقاريّة، التي "يسلتزمها حسن استثمار الشواطئ البحريّة"، هكذا يُعرّف عنها في السجل التجاري. لكن بحسب الخريطة الهندسيّة التي أعدّتها شركة "الحسام للمقاولات"، بما يتوافق مع رخصة وزارة البيئة الصادرة عام 2009، وتقضي بتقليص مساحة الردم وإلغاء مرفأ اليخوت وإلغاء الشاطئ الرملي، يتضمّن المشروع المرفوض مرّتين في المجلس الأعلى للتنظيم المدني، شاليهات اسمنتيّة وبرك سباحة اصطناعيّة، وعشرات البيوت الخشبيّة العائمة مع جسور وأرضيات خشبيّة، وكاسر أمواج مقابل برك المياه الطبيعيّة، في مخالفة فاضحة للخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية التي أقرتها الحكومة عام 2008، والتي توصي بالحفاظ على المواقع الساحليّة وعدم إحداث أي تغيير في هيئتها... كل ذلك في مقابل 30 ألف دولار سنوياً تدفع إلى صندوق رئاسة مرفأ شكا، أي أقل من دولار للمتر الواحد، وهو رقم زهيد بالاستناد إلى سعر الأرض الرائج المقدّر بـ 2000$.
رئيس بلدية كفرعبيدا لمعارضي المشروع: خلّيهم يسدّوا نياعهم

مرسوم الترخيص مطعون به منذ عام 2009 نظراً إلى السعر البخس، ولتخطّيه المهل المعطاة لإنجاز الأشغال، إذ تنصّ المادتان 3 و4 منه على بدء أعمال الردم خلال 18 شهراً، وحصول الشركة على ترخيص بالسماح بعبور طريق بيروت ــ طرابلس بواسطة نفق أو جسر ضمن مهلة أقصاها سنة واحدة قابلة للتجديد ضمن مهلة شهرين تحت طائلة إلغاء المرسوم. شروط قانونيّة لم تفلح بإلغائه، فتحوّلت المواجهة مدنيّة يخوضها الأهالي والجمعيّات المدنيّة في كفرعبيدا. وبحسب الناشطة كلارا خوري، لا تقتصر الأسباب على المخالفات القانونيّة، وحرمان الناس من أملاكهم العموميّة، وتشويه المناظر الطبيعيّة، بل تشتمل أيضاً على: 1- الأضرار التي ستلحق بقطاع الرياضة (السباحة والغطس والرياضات المائيّة والأندية الخاصّة بها) بحيث يعتبر الشاطئ مقصداً لها. 2- الإضرار بالتنوّع البيولوجي الذي أمّنته طبيعة الشاطئ التي تحتوي على مصاطب نادرة وأعماق مختلفة. 3- تهجير الأسماك والإضرار بالثروة السمكيّة. 4- الإضرار بكل الشواطئ المحيطة بسبب أعمال الردم التي سينجم عنها تآكل وترسبات على الشواطئ. 5- تهجير سكّان المنطقة والإضرار بمصالح الصيادين وأصحاب الحانات الصغيرة التي تعيش من البحر، (بحسب تعاونية صيادي كفرعبيدا، يقصد البحر مئات صيّادي الصنّارة ونحو خمسين زورقاً).

البلديّة تدافع عن الاستثمارات

بالنسبة لهؤلاء، العتب الأكبر يقع على البلدية التي وافقت على المشروع متجاهلة الأضرار المترتبة عنه، باعتبار أن الأمل من المسؤولين مقطوع. وبحسب خوري، هناك بقعتان لم تستثمرا بعد على طول شاطئ كفرعبيدا، الأولى هي المساحة المنوي إنشاء المشروع فوقها، والثانية ينتظر رئيس البلدية طنوس فغالي (وهو مدعوم من الوزير بطرس حرب) موافقة مجلس الوزراء لإقامة مشروع خاصّ به.
يوصف فغالي بالـ One Man Show في البلدية الذي يتحكّم بكلّ تفاصيلها، ويحكمها منذ 18 عاماً معتبراً أنه جعلها بلدة نموذجيّة، لكنّه فعلياً حوّلها الى مستنقع للصرف الصحي (الذي ترميه مشاريعه العقاريّة في أراضي السكّان والمسلّط من شاليهاته الخاصّة على البحر)، وإلى مكبّ للنفايات المكدّسة على الطرقات، ومشاع للمحارق وقطع الأشجار، عدا عن العمار العشوائي، وصولاً إلى المشروع الأخير.
يصر فغالي على الدفاع عن المشروع باعتباره سيؤمن فرص عمل في المنطقة، ودون أن ينطوي على أي ضرر بعد التعديلات التي فرضتها وزارة البيئة، قبل أن يتوجّه إلى المعارضين واصفاً إياهم "بالعالم المتفلسفة"، ويتابع قوله: "خليهم يسدّوا نياعهم. هذا استثمار بقيمة 100 مليون دولار، يصبّ في مصلحة المنطقة، ولن نقف بوجهه. هؤلاء يصرّون على إلصاق صفة "بلاد الدابة" بمنطقتي جبيل والبترون عبر معارضة أي مشروع إنمائي". يرفض فغالي الردّ على أي تهمة موجّهة له، مكتفياً بالقول: "طوال 18 عاماً، أنفقت 8 ملايين دولار على البلدة ولن أتحدّث عن أعمالي".
أمام المعترضين فرصتان لإنقاذ الشاطئ، أولاها صحوة وزارة البيئة وتحويله الى محميّة طبيعيّة، كان من المفترض إقامتها منذ 7 أعوام، أو وفاء التيار الوطني الحرّ بوعده بالطعن بالمراسيم الصادرة عن جلسة مجلس الوزراء. وإلّا سيكون أمامهم التصعيد أبعد من اعتصام في 10 أيلول... أبعد كثيراً.




أبو الجماجم مرّ من هنا

التعدّيات على شاطئ كفرعبيدا ليست حكراً على مجلس الوزراء رغم كونها الأكبر. ففي فترة الحرب اللبنانيّة، استحدثت الميليشيات "شاليهات" اسمنتيّة فوق صخوره الطبيعيّة، لا تزال آثارها واضحة حتى اليوم رغم هدمها بعد التسعينيات، وتحمل جدرانها المتصدّعة بعضاً من شعارات الحقبة السابقة وعباراتها، من أرزة الكتائب إلى "أبو الجماجم مرّ من هنا". ولم تنجح مرحلة السلم بإعادة البلدة من كنف الميليشيات إلى حكم المؤسّسات، إذ كان رئيس بلديّتها طنوس فغالي، الذي يحكمها منذ 18 عاماً (جدّد له أخيراً لست سنوات إضافيّة)، السبّاق في افتتاح بزار التعدّيات عبر إقامة شاليهات خاصّة مسلّطاً مجاريرها في البحر.