«أصلاً ما في إلا عراقيين». لا جواب آخر سيأتيك عندما ستسأل عن «هوية» الوافدين العرب إلى لبنان. يجيبون بلا تردّد: عراقيون. أو، بمعنى أدقّ، الأكثرية من العراق. فمنذ فترة، صار «عدّاد» مطار بيروت يُحصي هؤلاء، من ضمن المراتب الخمس الأولى، تماماً كما صار يحصيها سائقو «الخطّ»، الذين باتوا يعوّلون في لقمة عيشهم على الوافدين الجدد نسبياً، مقارنة بالسيّاح السعوديين والإماراتيين. يروي هؤلاء كيف يفردون أياماً من روزنامة عملهم الروتيني لاستقبال السيّاح العراقيين والتجوال معهم، بحيث «لا يمرّ أسبوع من دون استقبال عائلة أو عائلتين على الأقل»، يقول هشام، الشاب، الذي بنى «شبكة علاقات» مع بعض العراقيين. يوضح: «بالشهر مثلاً عندي ما بين 8 و10 عائلات بالحد الأدنى». منذ أربع سنوات تقريباً، بدأ هشام يشهد «تغيّراً» في جنسية الوافدين إلى مطار بيروت الدولي، حتى بات اليوم «شبه أكيد إنو العراقيين أكثر الناس الذين يأتون إلى هنا». هشام، الذي يحتسب ذلك التغيّر على «هوا» عدد العائلات التي يقلّها، يقترب في تقديراته الفطرية من الإحصائيات الرسمية. على سبيل المثال، إن إحصاء وزارة السياحة لعدد الوافدين إلى لبنان خلال شهر تموز من العام الجاري، وهو من أشهُر الذروة في الموسم السياحي الصيفي، يُظهر أنّ «أبرز الوافدين العرب إلى لبنان هم العراقيون، وقد بلغ عددهم 28549، بزيادة نسبتها 47%، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، عندما بلغ عددهم 19427».
إحصاء ضئيل. مع ذلك لا يمكن العبور فوقه، فالعراقيون باتوا رقماً ثابتاً في المراتب الأولى ضمن حركة السياح، إذ يحتل العراق المرتبة العربية الثالثة، خلال هذا العام «حتى أواخر آب، حيث بلغت نسبة الداخلين والخارجين 346259». مرتبة ثالثة لم يكن يحجزها العراق منذ أربع سنوات، صارت ثابتة، وإن اختلفت فـ«طلوع مش نزول». هكذا، يقول المعنيون.
يحدث أن يحتل العراق رقماً متقدّماً، ويحدث أيضاً أن يفتح هذا الرقم سجلاً جديداً من السياحة، حيث يظهر من الإحصاءات أيضاً، وما تقوله المستشفيات، أن معظم الوافدين العراقيين جاؤوا إلى لبنان لأغراض العلاج.
نشطت هذه السياحة أخيراً، وباتت وزارة السياحة، كما الصحة والمستشفيات، تضع من ضمن حساباتها، ما اصطُلح على تسميته السياحة العلاجية، التي قال وزير الصحّة العامة، وائل أبو فاعور، إن «حجمها في لبنان يبلغ 7 مليارات دولار»، ما يستدعي «وضع خطّة منظمة من قبل الوزارات المعنية لانخراط البلد في هذه السياحة».
إذاً، هذا ما «تجنيه» المستشفيات والعيادات والمختبرات وشركات تجارة الدواء وشركات السياحة والسمسرة: مليارات عدّة.

لماذا يتطبّب العراقيون هنا؟

يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، إن «العراقيين يمثلون الحصة الأكبر من حجم هذه السياحة». لماذا هم؟ يعدّد هارون أسباباً كثيرة لهذا التوافد، منها ما يتعلّق بالواقع الطبي والأمني في العراق «حيث تعاني المستشفيات هناك نقصاً كبيراً في الكادر الطبي والمعدات أيضاً، كذلك دُمِّر الكثير من مؤسساته الطبية، وبالتالي لم تعد تلك المؤسسات قادرة على استيعاب الحالات الطبية التي تحتاج إلى طبابة خاصة، وهو ما يمكن أن توفره مستشفيات لبنان». يقول هارون ذلك، مستنداً إلى دراسات عالمية، منها مثلاً إحدى الدراسات التي تقول إن «نحو 70% من الكادر الطبي ترك العراق». إلى كل ذلك، يضيف رئيس الهيئة الوطنية الصحية، إسماعيل سكرية، سبباً إضافياً، هو «انتشار» مرض السرطان في العراق «بسبب اليورانيوم، حيث بلغت النسبة في جنوب العراق وحده في أواخر التسعينيات ما يزيد على 100 ألف».
هذه الأسباب جعلت من لبنان وجهة أساسية للعراقيين. بحسب نقيب الأطباء، هناك «150 إلى 200 حالة يومياً، غالبيتها من العراقيين». وباحتساب لتلك النسبة، يقول هارون إنّ «المستشفيات تستقبل سنوياً ما لا يقلّ عن 40 ألف حالة استشفاء»، وإن كان الرقم لا يزال أقل من المطلوب، إذ تستطيع المستشفيات اللبنانية «استيعاب نحو 200 ألف حالة استشفائية سنوياً»، يتابع. كان سيحصل هذا بـ «قعدة بين القطاعات المعنية». لكن ذلك لم يحصل. مع ذلك «يأتي العراقيون» للعلاج. وتحت هذا العنوان، يقسّم هارون وجهة العلاج إلى قسمين: الأول، وهو المتعلّق بـ«السياحة التجميلية، وهي ناشطة، ولكنها تجري في الغالب خارج المستشفيات، وغالباً بشكل مخالف للقانون». أما القسم الثاني، فهو المتعلّق بـ«السياحة الطبية العادية، وغالبية العراقيين الوافدين يأتون إلى المستشفيات اللبنانية لإجراء العمليات الجراحية الدقيقة، مثلاً قسطرة شرايين القلب أو جراحة العظم (ركبة، أوراك)، أو لتلقي العلاجات الكيميائية لمرضى السرطان». وفي الشق الأخير من العلاجات، يدخل العراقيون إلى المستشفيات «وفق نموذجين: إما الدفع النقدي (الكاش)، وهي الفئة الغالبة، وإما عبر عقود واتفاقات مع وزارة الصحة العراقية أو شركات خاصة».
المستشفيات تستقبل سنوياً ما لا يقلّ عن 40 ألف حالة استشفاء

كيف بدأت الموجة؟

يتحدث وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة عن تجربته مع وزارة الصحة العراقية، «حيث كنت أول من بدأ ببلورة فكرة السياحة العلاجية، وتحديداً مع العراق، ونشأت حينذاك (عام 2008) العقود ما بين وزارة الصحة العراقية ووزارة الصحة العامة، من خلال مستشفى بيروت الحكومي، الذي كان يستقبل المرضى العراقيين وعائلاتهم أيضاً، حيث كان هناك ما يشبه الأوتيل في المستشفى لتأمين إقامة هؤلاء، وكان المستشفى يتلقى خلالها ما بين 600 مليون و800 مليون ليرة لبنانية سنوياً». ولكن، هذه انتهت، ونشطت الحركة العراقية نحو المستشفيات الخاصة، بين تلك التي نشأت على فكرة السياحة العلاجية، وهنا يعطي هارون مثالاً مستشفى «CMC» (مستشفى كليمنصو)، «فهذا الأخير متميز بأطبائه واختصاصاتهم وخدماته الفندقية أيضاً»، وهناك مستشفيات «اجتهدت» لإبرام عقود مع جهات رسمية عراقية أو شركات خاصة تتكفل بكل تفاصيل رحلة المريض، بما فيها دفع مستحقات المستشفيات.

لبنان أوتيل كبير

تعرف المستشفيات اللبنانية «البزنس»، فهي تتعاطى مع المريض على أنه زبون ــ مستهلك لسلعة «عزيزة»، أي الصحة. سلعة تدرّ أرباحاً طائلة. يقدّر أحد الأطباء (رفض ذكر اسمه) عدد المستشفيات التي تستقطب النسبة الأكبر من نشاط «السياحة العلاجية» بنحو «ثمانية مستشفيات موجودة في بيروت»، يقول: «ليس هذا انتقاصاً من مستوى تلك المستشفيات، خصوصاً أنها من الأوائل في الخدمات الطبية والمتابعة أيضاً، ولديها هالة لدى العراقيين». ولكن، هذا لا يمنع «من سوء استعمال الموضوع، لأسباب كثيرة، منها عدم التنسيق بين القطاعات المعنية، أضف إلى أنّه يوجد تهريب لحالات الاستشفاء، وكلنا يعرف أنّ هناك مستشفيات ترسل أشخاصاً من قبلها إلى المطار لاستجلاب الوافدين للعلاج!».
ما الذي يحصل؟ هنا، تتقاطع حكايات كثيرة عند نقطتين: الأولى تتعلق باستغلال المرضى العراقيين، والثانية تتعلق بصحة اللبنانيين ونظامهم الفاشل الذي يضعهم تحت رحمة المستشفيات. كيف؟ يقول أحد الأطباء العارفين بما يجري إن «المعروف عن المريض العراقي أنّه دفّيع ويتعامل بالكاش، وهذا بدأ يؤثر بالمقيمين في لبنان الذين باتوا على لائحة الانتظار». المضمونون يعانون أصلاً من «المشاكل مع المستشفيات التي تبقى على علاقة سيئة مع الجهات الضامنة، فضلاً عن أن عدد الأسرّة المتعاقد عليها مع الجهات الضامنة قليل. لذلك، تقصد المستشفيات الطريق الأسهل: العراقي الدفّيع من دون تعب ضمان ولا وزارة الصحة». وهي لا تختلف في تعاطيها مع هذه الفئة إن كانت «لوكس» أو «عادية».
هذه ليست أزمة العراقيين. هذه أزمة نظامنا الفاشل. فالعراقيون أيضاً «مقنوصون». في الرواية التي يمكن اعتبارها صادرة عن جهة رسمية، يتحدّث خليفة، وزير الصحة السابق، عن «غياب الشفافية المالية في التعاطي مع المريض، لا وجود لشيء اسمه package كاملة كي يعرف المريض التعرفات عن كل شيء، أضف إلى ذلك عدم وجود نظام إحالة، يعني ممكن المريض يروح على مستشفى مش هو الأفضل لطبيعة مرضه، وهنا تحصل الإشكالات». يعطي هارون مثالاً على هذه الإشكالات، «إذ علمتُ من شخص في السفارة العراقية أن بعض المستشفيات عندما تعرف أن المريض عراقي تبالغ في الفاتورة، لذلك يجب أن يكون هناك عقود واضحة بالتعرفات والأسعار».

المريض في «المصيدة»

نظراً إلى عدم وجود هذا الأمر، بدليل دعوة أبو فاعور إلى تعزيز التنسيق، يقع المريض في «المصيدة». وهنا، بعض الأمثلة على لسان بعض الأطباء، منها حكاية المريض العراقي «الذي دفع عن ثلاثة أيام إقامة في أحد المستشفيات لتلقّي العلاجات من مرض السرطان 9 آلاف دولار، وعندما امتنع عن دفعها قبل الاطلاع على الفواتير، جاءه الجواب: sorry أستاذ صار في غلط بالكود ومشينا الوضع». الخطأ في «الكود» كاد يكلّف المريض 6 آلاف دولار أميركي. وثمة مثال آخر عن «فاتورة منتفخة نفّع خلالها الطبيب المعالج تسعة أطباء تحت خانة الاستشارات»، ومثال آخر على «الفحوص الطبية التي لا منفعة منها سوى تحريك الملف المالي 24 ساعة»، ومثال رابع على «مريض بالسرطان طلب منه دفع 140 ألف دولار أميركي ثمناً لأربع إبر، تبيّن في في ما بعد أن الطبيب الذي طلبها يجري صفقة مع إحدى الشركات سيأتيه منها commission» أو «يعمدون إلى إطالة أمد إقامة المريض لتحصيل أموال إضافية». أمثلة كثيرة يرويها أطباء يعملون في تلك المستشفيات، وهي أصلاً ليست خافية على أحد.
هذه عيّنة بسيطة عمّا يجري، فيما الجهات الرسمية غائبة، تعدّ «المليارات»، وتقف متفرجة على نظام صحي يعرّي اللبناني من حقوقه ويهدر «السمعة» أمام الوافدين. تلك السمعة التي لم يبقَ منها سوى مقولة لبنان «مستشفى الشرق الأوسط»، فهل يبقى كذلك؟ في ظل موجة «القنص» تلك لا يبدو ذلك وارداً.




السياحة العلاجية «موديل» الخمسينيات

في الخمسينيات، ولدت أوّل محاولة لفكرة السياحة العلاجية مع الدكتور نسيب البربير. حينذاك، أضاف صاحب مستشفى البربير بعض المميزات «فيها شيء من الفندقية» لاستقطاب المرضى القطريين والسعوديين في ذلك الوقت. هكذا، بدأت رويداً رويداً، إلى أن كانت التجربة الرسمية في عام 2008 مع مستشفى بيروت الحكومي، لتكرّ بعدها السُّبحة.