تدخل دول أميركا اللاتينية مرحلة قد تعتبر الأكثر خطورة إثر إقالة مجلس الشيوخ البرازيلي الرئيسة العمّالية، ديلما روسيف، أول من أمس، وذلك في وقت يتخوف فيه متابعون من أن يعرف الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، مصيراً مشابهاً لمصير نظيرته، في مشهد يضع حداً لموجة «المد الوردي» التي استمرت نحو 15 عاماً في «الدول اللاتينية».
ناقوس خطر

بين عامَي 2013 و2014، ضجّت الصحف العالمية بأقوى لحظات صعود التيارات والأحزاب ذات التوجهات اليسارية في أميركا اللاتينية. فقد شهدت تلك الفترة إجراء أربعة انتخابات رئاسية نجم عنها إعادة فوز تلك التيارات في ثلاثة من الاستحقاقات: بوليفيا، البرازيل وأوروغواي. بالتوازي، فازت في تشيلي ممثلة تيار اليسار الوسط، ميشيل باتشيليت، فيما كسب الرئيس الإكوادوري، رافاييل كوريا، ولاية جديدة. وبالتزامن مع مرور تلك الاستحقاقات الانتخابية، فإنّ فنزويلا كانت تشهد على استمرارية الإرث التشافيزي بعدما خلف نيكولاس مادورو، الرئيس والزعيم الراحل هوغو تشافيز في سدة السلطة.
أعلن أوباما أخيراً أنّ إدارته تجدّد قيادة واشنطن للأميركتين

لكن المشهد «الوردي» بدأ بالتغيّر مع فوز مرشح يمين الوسط وعمدة بوينس آيرس، موريسيو ماكري، بالانتخابات الرئاسية الأرجنتينية عام 2015، منهياً بذلك 12 عاماً من حكم الـ«كيرشنرية» (البيرونية)، نسبة إلى كريستينا كيرشنر الاشتراكية وإلى زوجها. وفي ظل «التقارب» الكوبي ــ الأميركي والأرجنتيني ــ الأميركي، وبروز فضائح فساد في تشيلي، وإعلان الرئيس الإكوادوري عدم الترشح لانتخابات 2017، ازداد الحديث عن أن صعود التيارات المعارضة والأحزاب اليمينية سيكون عنوان المرحلة المقبلة. ومع إقالة روسيف من قبل مجلس الشيوخ، انتهى 13 عاماً من حكم العمّاليين لأكبر دولة في أميركا اللاتينية، وهو الأمر الذي قد يدفع باتجاه سقوط التشافيزية في فنزويلا، وخاصةً مع خروج التظاهرات المناهضة لمادورو على خلفية وقوع «أسوأ أزمة اقتصادية منذ أكثر من عقد».
وفي ظل الأزمات الاقتصادية (البطالة وتباطؤ النمو الاقتصادي والتضخم) التي تعصف بدول أميركا اللاتينية، وعدم قدرة اليسار اللاتيني بنماذجه المتعددة على التصدي والصمود بسبب ضعف الآليات والبدائل المطروحة وبسبب فضائح الفساد، تمكنت أطراف معارضة من استقطاب الرأي العام الغاضب، متوعدة بـ«إنقاذ الاقتصاد» وتبني سياسات أكثر انفتاحاً. ولعلّ عزل روسيف من قبل ائتلاف معارضيها، على خلفية اتهامها بالتلاعب بالحسابات العامة لإخفاء حجم العجز وإصدار مراسيم من دون ضوء أخضر من البرلمان، قد دقّ ناقوس الخطر لدى الحكومات في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، وهي البلدان التي احتجت على «الانقلاب البرلماني» و«الخيانة» التي تعرضت لها حليفتهم المنتخبة من قبل الشعب. وقد نجم عن الحدث البرازيلي توترات في العلاقات الدبلوماسية في أميركا اللاتينية بعدما استدعت فنزويلا والإكوادور وبوليفيا سفراءها من البرازيل احتجاجاً على الخطوة.

ريادة أميركية جديدة

برغم الاختلافات والتناقضات بين الأقطاب اليسارية اللاتينية، فإنّ تجربتها في الحكم كانت تقدّم كأنها «مختبر لدول العالم الثالث» ولحركاته اليسارية، وكتجربة كذلك للأحزاب والحركات اليسارية في أوروبا. لكن يبدو أنّ تلك الصورة بدأت تتلاشى راهناً لمصلحة عودة أحزاب نيوليبرالية ويمينية عن طريق الانتخابات أو عبر ركوب موجات المعارضة الشعبية، أو حتى من خلال «الانقلابات الدستورية» كما حصل في البرازيل.
وعلى صعيد السياسة الدولية، فإنّ الإخفاق اليساري يمنح الولايات المتحدة فرصة استعادة قبضتها على ما يصفه البعض بـ«حديقتها الخلفية». وكان باراك أوباما قد قال صراحة أخيراً: «نحن في صدد تجديد قيادتنا في الأميركتين»، وذلك بعدما كانت البرازيل وفنزويلا مرشحتين في مطلع القرن الحالي للوقوف في وجه هيمنة الولايات المتحدة ومنافستها على الساحة العالمية، قبل أن تعيق الأخطاء والتحديات الاقتصادية التي واجهتها الدولتان المهمة، وخاصةً إثر انخفاض حجم صادرات البرازيل إلى الصين من الحديد الخام والمواد الزراعية، وانخفاض أسعار النفط الذي كان بمثابة ضربة قوية للاقتصاد الفنزويلي.
وبالرغم من أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، كان قد وجّه خلال زيارته التاريخية للأرجنتين، بعد 12 عاماً من الخلافات، رسالة طمأنة إلى دول أميركا اللاتينية مفادها أن بلاده «تعلمت من الماضي» (في إشارة إلى زمن انقلابات السي آي ايه في أميركا اللاتينية)، فإنّ نيكولاس مادورو اعتبر أن «الانقلاب البرلماني» في البرازيل يشكّل جزءاً من «حملة إمبريالية» تقودها واشنطن ضد الحكومات اليسارية في المنطقة. وفيما طالب مادورو أنصاره بضرورة التحلي باليقظة قبيل تظاهرات ضخمة تنظمها المعارضة للمطالبة بالاستفتاء على عزله، فإنه أعلن، في خطاب بثه التلفزيون، أنّ «هذا الانقلاب ليس ضد ديلما فقط. إنه ضد أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. إنه ضدنا... فهذا هجوم على الحركة اليسارية الشعبية التقدمية».