شكلت "انتفاضة يناير ٢٠١١" في مصر نموذجاً احتجاجياً غير مألوف في علم الثورات، تحالفت فيه مكونات شديدة التنوع في مواجهة تغوّل الطبقة الحاكمة وسعيها لإعادة إنتاج ذاتها من خلال التوريث. فتوحدت شرائح العمال والطلبة وناشطو المجتمع المدني المرتبطين بالخارج مع عناصر من البرجوازية المصرية، ولا سيما في شكلها الديني (الإخوان المسلمون) وغيرهم، في مواجهة رمزيّة حاسمة مع رموز النّظام الظاهرة (رغم غياب أي تلفيق أيديولوجي معلن بين الأطراف). انطلقت شرارة تلك المواجهة بداية من إضرابات العمال في المحلة في عام ٢٠٠٦، وتوسعت من خلال مظاهر التفلت والتحدي المدنية المحلية الصغيرة في الشوارع الخلفية للقاهرة ومدن مصر الكبرى، لتأخذ مداها في العاصمة والإسكندريّة خلال أسابيع قليلة في "يناير٢٠١١"، وانتهت إلى تنحّي الرئيس، حسني مبارك، وتولي مجلس عسكري مؤقت إدارة البلاد.ذلك التحالف (العشوائي والمؤقت) بين الطبقات والمصالح والتكتلات والتنظيمات والموجه ضد رمز السلطة الحاكمة ــ وهي لم يجمعها على ما يبدو سوى العداء لرأس النظام ــ كان يفتقد بشدة مشروعاً نظرياً بديلاً أو حتى القدرة على إنتاج مجموعة ثورية قادرة على تولي السلطة أو فرض بديل مقبول على رأس هرم الحكم. وهي، وإن كانت كما يقول الصحافي البريطاني جيمس شينكر في كتابه "المصريون، قصة راديكالية" قد كسرت حاجز الخوف من السلطات وأدخلت قطاعات واسعة من المواطنين (خصوصاً من أبناء الطبقة الوسطى والمهنيين البرجوازيين) في العمل السياسي، فإنها انتهت إلى مأساة تامة بالنسبة إلى المواطنين المصريين العاديين.
الجهد الشعبي المتصاعد لإسقاط الرئيس بوصفه رمز السلطة الحاكمة لم يوجه باتجاه "الدولة العميقة" التي تسيطر فعلياً على مفاصل البلاد. بل على العكس: كان المتظاهرون يستنجدون بالجيش المصري للتدخل لحمايتهم من بطش قوات الشرطة والأمن المركزي. وتولّى العسكريون في هذه المنظومة عملية تأمين سقوط آمن للرئيس ووجوه قليلة حوله. وهكذا لم يتغير شيء فعلياً في بنية النظام الحاكم، رغم كل الجعجعة الإعلامية في صحف الغرب والعالم العربي. وحتى عندما دبّر العسكريون أمر إجراء انتخابات رئاسية للتنفيس عن الغضب الشعبي، فهم "سلّموا السلطة" لزعيم من "الإخوان المسلمين" الذين كان يسهُلُ دوماً استهدافهم لاستحالة توحد الشعب المصري حولهم. وهذا ما جعل أمر تنحية الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وصعود وزير الدفاع إلى المنصب الأعلى في البلاد، يمران بسلاسة ويسر نسبيين.
الأمر الآخر، أن المصريين الذين انتفضوا في "يناير ٢٠١١" وجهوا جلّ غضبهم نحو قوات الشرطة والأمن المركزي، لا الجيش. وهكذا تعرضت مراكز الشرطة والسجون للاعتداءات، وقتل وجرح عدة مئات من رجال الأمن وسقطت هيبة المنظومة الأمنية المتمحورة حول وزارة الداخلية، بينما لم تمسّ المؤسسة العسكرية تقريباً، وبقيت محيَّدة عن النزاع وهربت من المواجهة مع الشارع لاحقاً من خلال تنظيم انتخابات رئاسية.
لم تُمسّ بعد الأسس النيوليبرالية التي بدأها السادات وورثها مبارك

ولعلّ الأهم من ذلك كله، أن "انتفاضة يناير" لم تمسّ بأي شكل أسس المشروع النيوليبرالي الذي فُرض على الشعب المصري، وأدى إلى استقطاب طبقي حاد في البلاد بين أقلية تمتلك ثروات هائلة وأكثرية معدمة ومهمشة وشديدة العوز. هذا المشروع الذي بدأ في عصر الانفتاح، كما سماه الرئيس أنور السادات، واتخذ اتجاهاً حاسماً ابتداءً من عام ١٩٩١ في عهد الرئيس مبارك عبر تطبيق وصفات "صندوق النقد الدولي" واعتماد الخصخصة والإصلاحات الهيكلية في ملكية القطاعات الاقتصادية المختلفة، هو ما استمرت عليه السلطة المصرية الحاكمة إلى اليوم، ووصل إلى قمته الرمزيّة بوصول حجم الدين العام إلى نسبة ١٠٠٪ من الناتج القومي للبلاد (هذا طبعاً حتى قبل تسلُّم القرض الذي تفاوضت عليه السلطات أخيراً مع صندوق النقد الدولي والذي من شأنه أن يدفع المشروع النيوليبرالي إلى مستويات أشد قسوة على الفئات المحرومة، بما لا يقاس).
وبينما يذهب كثير من المحللين والصحافيين إلى أن توالي الضغوط الاقتصادية على المواطنين المصريين قد يدفع إلى انتفاضات ثورية يمكن أن تطيح النظام، أو على الأقل اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق، فإن لقاءات الزائر في الشارع المصري مع عينة جد عشوائية من المواطنين الذين يمكن أياً كان أن يقابلهم خلال أي زيارة للقاهرة تشير إلى قلق شديد من احتمال حدوث "يناير جديد"، مستبعدة في الوقت نفسه حدوثه، ناهيك عن الانخراط فيه.
ميلاد مثلاً (وهو شاب قبطي كما يوضح ذلك اسمه) يسكن في منطقة شعبية في القاهرة، ويعمل على "تاكسي" تقليدي قديم، يقول إن طبقة المواطنين الفقراء خسرت في "يناير ٢٠١١" الشيء الوحيد الذي وفره نظام مبارك لفقراء مصر، وهو نوع من الأمن والسيطرة النسبية على الجريمة، مضيفاً في سياق الحديث أنّ ما حصل، في المقابل، لم يغيّر الطغمة الحاكمة، ولم يحسن الأوضاع الاقتصاديّة، وأفرز في انتخابات مشبوهة رئيساً منحازاً، بصفته الموضوعيّة، ضد الأقليات. لكن ميلاد لن يلتحق بأي عمل ثوري "لأن لا أحد قلبه على الفقراء... بل هي أشبه ما تكون بلعبة كراسٍ موسيقية بين السياسيين لا أكثر".
وليد، وهو موظف أربعيني في فندق خمس نجوم في القاهرة، يقول إن انهيار قطاع السياحة المصري بعد "يناير 2011" وما تبعه من أحداث، أدى إلى دمار شامل في منظومة العيش اليومي لنطاق واسع من المصريين المعتمدين في كسب رزقهم على السياحة. "وهكذا، فنحن نعمل بلا حقوق تقريباً لستّ عشرة ساعة في اليوم دون زيادة في الرواتب الأساسية الهزيلة منذ خمس سنوات، وفي ظل تضخم غير مسبوق في الأسعار". ووليد يتوقع أن وصفة صندوق النقد الدولي وتسريح موظفي القطاع العام قد تدفع الناس إلى اليأس، لكنه يقول إن المصريين بعد تجربتهم الفاشلة أصبحوا الآن أكثر حرصاً على الأمن من أي وقت مضى، وهم غالباً "سيمتصون الصدمة ويستمرون بالموت ببطء". وهو شخصياً لن يكون طرفاً في أي حراك، لأن أولاده بالكاد يجدون ما يقيم أودهم "فكيف إذا قتلتُ أو أصبتُ؟".
حسام أستاذ جامعي يساري النزعة، وهو أعطى تحليلاً طبقياً للوضع المصري، حيث "رأسمالية الكمبرادور" المحلية تستحوذ على البلاد ولا تترك للعمال والفلاحين والبروليتاريا الرثة إلا أقل القليل، لكنه يعترف بتقلص هامش عمل اليسار بين الطبقات الشعبية وسط تفتت الحراكيين اليساريين بين مجموعات متناقضة وتحوّل الكثيرين منهم إلى "عبّاد شخصيات يسارية تاريخية دون قدرة فعليّة على تطبيق الديكالتيك على الواقع الموضوعي في مصر اليوم". وحسام لا يرى أن في الإمكان في المدى المنظور وضع نظرية ثورية محلية قادرة على استقطاب كتلة شعبية فاعلة برغم الحراكات العمالية المتكررة، وذلك بالنظر إلى "انعدام أفق التغيير من داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة التي لا يمكن عمل شيء فعلياً من دون مشاركتها". "المصريون لا يواجهون القياصرة في القصر الشتوي، هم في مواجهة الدولة العميقة المتداخلة مع الحياة اليومية للمصريين" يقول حسام، وهو من أجل ذلك يعتقد أن أي حراك في الظروف الحالية سيكون عبثياً وضد مصالح الفقراء.
إيهاب موظف في القطاع الخاص (وهو متديّن، بالنظر إلى اللحية الطويلة التي يحملها)، يقول إن الأمور في مصر أكثر تعقيداً مما يبدو عليه الأمر، ولا يمكن وصفها بتحليل على مستوى واحد. هو "يأمل من الله أن لا تنزلق البلاد إلى منعطف عنف، لأن المصريين عاطفيون على العموم ويسهل التلاعب بمشاعرهم من قبل الكتل السياسية المتصارعة"، ما سيؤدي بالضرورة، وفقاً له، إلى صراع أهلي لا ثورة تغيير إذا اندلعت أعمال عنف. إيهاب متفائل بتجاوز مصر الأزمة، وهو يعتقد أن لا أحد في الغرب أو الخليج يريد أن يرى الفوضى تأكل مصر، لذا "ستُرحَّل الأزمة بشكل دائم ولن تقوم ثورة حقيقية في أي وقت من الأوقات!".
أماني موظفة قطاع خاص أيضاً وأم لطفلين، ترى أنّ "يناير ٢٠١١ كانت بمثابة أعمال شغب استغلها سياسيون قصيرو النظر، أكثر منها حراكاً شعبياً حقيقياً". وهي تعتقد أن أوضاع البلاد مقبلة على تأزم متزايد، خاصة بعد انهيار قيمة الجنيه المصري أمام الدولار وسط الارتفاع المتلاحق للأسعار، لكنها تعتقد أيضاً أن التوازنات بين الفئات المختلفة سيعاد ترتيبها شيئاً فشيئاً، دون أعمال عنف واسعة النطاق، "ولا سيما بعدما عرف المصريون ماذا يحدث في ليبيا وفي سوريا بسبب الفوضى". أماني ترى أن الإعلام المصري هو جزء من الأزمة وأنه يلعب دوراً سلبياً للغاية، ولا يساعد على أخذ البلاد إلى بر الأمان.
إذن، المشهد المصري المعقد يتجه إلى مزيد من التأزم بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة، لكن كل الأطراف في المجتمع من دائرة العسكريين في "الدولة العميقة" الممسكة بتلابيب السلطة، إلى الطبقة البرجوازية المهيمنة وطبقة الفلاحين الصغار والعمال، وانتهاءً بالبروليتاريا المصرية الرثة، مجمعون في أغلبيتهم الساحقة على أن ظلم الدولة المصرية على شدته يبقى أفضل ألف مرّة من الفوضى الأمنية في بلد ــ رغم تاريخه الحضاري الموجب للاحترام ــ تحوّل في ظل النيوليبرالية المتوحشة إلى "أهم منتج للفوضى والعشوائية والرداءة في الشرق الأوسط"، كما يرى البعض.