لا يوصل البحث عن تيار المستقبل في مدينة طرابلس إلى أي نتيجة جديدة. النائب السابق مصطفى علوش يواصل ممارسة "هواية" التحليل السياسي، في أوقات فراغه بين عملية جراحية وأخرى، فيما يواصل الناشط المستقبلي عبدالله بارودي العيش في عالمه الافتراضيّ الخاص. المكاتب، المحازبون، الخدمات، السياسة، الماكينة، الإنماء، الحزب، الديون، الرواتب... كلها باتت من ماضي المدينة.من دكان إلى آخر، يبدو السؤال في شوارع المدينة عن أخبار تيار المستقبل مستغرباً جداً، كأن ما من أحد يتوقع من الحريري تغييراً في إهماله المتمادي لمناطق نفوذه. هنا، تتكرّر العبارة نفسها: "عنّا الريفي"... "عنّا الريفي، ما في غيرو".
في حي الزاهرية، يحرص مناصرو وزير العدل على تجديد صوره كل بضعة أسابيع، فيما بهتت ألوان صور الحريري الأب والابن. صاحب كاراج تصليح السيارات الذي أبقى على صورة الحريري في محله يؤكّد أن "احترامنا للشيخ سعد وحبنا لوالده ما زالا كبيرين"، لكن الخيبات المتتالية "هدّت حماستنا". فـ"بدل تعويض الفضائح السياسية خدماتياً وإنمائياً، فوجئنا بهم يقفلون أبواب المستوصفات والمؤسسات الخدماتية المختلفة للإمعان في إذلالنا".
في مكتب مختار من مناصري النائب المستقبليّ محمد كبارة، يقول أحد النافذين في منطقة التلِّ إن ما بدأه أحمد الأسير أكمله اللواء أشرف ريفي، عن قصد أو عن غير قصد، لناحية تسخيف الخطاب الحريريّ التصعيديّ وإظهاره ضعيفاً جداً مقارنة بخطابات سياسية ومذهبية أخرى. يشير الرجل إلى أن "أبنائي لم يناقشوني يوماً، منذ خمس سنوات، بما يقوله الحريري، لكنهم غالباً ما ينتشون بتصريحات لم أسمع سابقاً بمطلقيها".
حل مشكلة ميقاتي في عودته من رئاسة الحكومة إلى طرابلس وحل مشكلة الحريري في عودته إلى السراي

المختار يشير الى أن الفراغ السياسي الحريريّ ترافق مع فراغ خدماتيّ، لافتاً الى أن مرجعيته (كبارة) كان يتّكل خدماتياً على مؤسسات الدولة وليس على المال الحريريّ. لكن هذه المؤسسات ما عادت تلبّيه كما كانت تفعل منذ التسعينيات، بعدما نجح ريفي في "القوطبة علينا". التداخل بين ماكينة المستقبل وأجهزة قوى الأمن الداخلي كان كبيراً منذ عام 2005، وهو ما استغله ريفي. لكن اللافت أن الوزير نهاد المشنوق لم يعمد، عملياً، إلى فصل مسار هذه المؤسسة الأمنية عن ريفي الذي لا يزال اللاعب الأقوى. والأغرب أن ماكينة المستقبل في طرابلس آثرت "الانسحاب الخدماتي" الكامل بدل اعتماد خطة بديلة، بواسطة الشخصيات السياسية التقليدية وعلاقاتها في الوزارات الخدماتية. حتى النقابيون وأصحاب المصالح الذين كان بوسعهم إسناد "المستقبل" من دون مقابل، لم يجدوا من يسأل عنهم أو يحاول الاستفادة منهم، حتى طرق ريفي بابهم و"كَوْدرهم". ومن يدقق في أسماء من يولمون لوزير العدل هذه الأيام لن يصدق كيف انتقل هذا الرجل من ساحة إلى أخرى.
واللافت أن الانكفاء الحريري تبعه انسحاب ميقاتيّ كامل أيضاً. فرئيس الحكومة السابق رأى أن نتيجة الانتخابات البلدية تخوّله الاستمتاع بإجازة صيفية لشهرين بدل شهر واحد، مطفئاً جميع محركاته. وإذا كان الانسحاب الحريري مبرراً بحكم الطراوة السياسية والأزمة المالية، إلا أن ما يثير الاستغراب هو الاستسلام الميقاتيّ الكامل. فبدل النزول الى الأرض لمجابهة "الريفي"، يواصل ميقاتي خداع نفسه والرأي العام بأن قوة اللواء المتقاعد تكمن في تحريضه المذهبي، معتقداً أن المال السياسي هو الوسيلة الوحيدة لإسقاطه. وهو في ذلك مخطئ تماماً. ظاهرة ريفي ــــ خلافاً لما يشيعه خصومه ــــ لم يخلقها التحريض المذهبيّ فقط ولا المال الخليجي وحده. ريفي اليوم هو "ميقاتي 2002" حين كان وزيراً للأشغال يرتدي ثياباً رياضية ويتنقل بين ورش تزفيت المدينة ومشاريعها يسلم على هذا ويحدّث ذلك ويقبّل ذاك؛ وهو "حريري 2005 ــــ 2006" حين كان يشبع نهم الجمهور للخطاب السياسي الحالم؛ وهو محمد الصفدي الذي كان يولم للطبقة الوسطى في المدينة و"يُغنِّج" أبناء بيوتاتها السياسية ولا يرد لهم طلباً من بلدية طرابلس أو وزارة العدل أو غيرهما؛ وهو محمد كبارة قبل أن يتعبه الروتين الخدماتيّ؛ وهو ــــ مع الفارق الشاسع في الحجم والموقع ــــ الرئيس رشيد كرامي حين كان يقول إنه باق على موقفه في معارضة الاتفاق الثلاثي ولو بقي يقف وحده فوق سحّارة عند ساحة التل. ريفي هو المتزمّت في الأحياء المتزمتة، والمنفتح الذي تنظم منتجعاته حفلات راقصة عدة يومياً.
المال السياسي مهم، لكن تأمينه في ظل سخاء مشايخ الوهابية لم يعد مشكلة. الأهم هو طريقة إنفاقه والخطاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلاقة المباشرة مع الناخبين، وهنا أزمة الحريري وميقاتي الحقيقية. حتى الآن، لا يزال "الاختراق الريفي" في "البيئة الميقاتية" محدوداً جداً. ويمكن ميقاتي استعادة الكثير ممّا خسره في حال حسم قراره بالعودة إلى الأرض، والاستعاضة عن صوره في الأمم المتحدة بصور جديدة له في باب التبانة وباب الرمل والأسواق والتل وأبي سمراء وغيرها من الأحياء التي اعتادت رؤيته في شوارعها قبل أن تسكره الزعامة ويفسح المجال ليلعب ريفي في ملعبه. أما المستقبل فعاجز عن "لملمة" أوضاعه ووقف النزيف الشعبي والتنظيميّ المتواصل بعد استقطاب وزيره السابق، بوسائل مختلفة، كلّ الجديين في ماكينة المستقبل وإهماله من يقتصر نشاطهم على العالم الافتراضيّ ولا يفيدونه انتخابياً بشيء.
من يدقق في أوضاع المدينة اليوم يتيقن أن عودة المال ــــ التي لا تبدو وشيكة ــــ إلى شرايين المستقبل لا تكفي وحدها. فالمال عامي 2005 و2009 كان ضمن سلة حريرية متكاملة تشمل خطاباً سياسياً متماسكاً، ووحدة الصف، وماكينة إعلامية، وماكينة انتخابية، ووجوهاً نيابية جديدة، وغيرها الكثير مما لا يملك الحريري مفاتيحه اليوم. حل مشكلة ميقاتي يكمن في عودته من رئاسة الحكومة إلى طرابلس. أما حل مشكلة الحريري فيكمن في عودته إلى رئاسة الحكومة التي من شأنها: أولاً، ترميم الثقة الشعبية به في مناطق نفوذه التي بدأت بالاهتزاز منذ أظهر عجزه عن البقاء في السلطة رغم فوز فريقه بالأكثرية النيابية. ثانياً، إعادة الموظفين الذين كانوا يدورون في الفلك الحريري، ويلبّون مطالب ماكينة المستقبل الكثيرة، إلى بيت الطاعة، بعدما شعروا أن حفاظهم على مواقعهم يستوجب استرضاء غير الحريري. ثالثاً، عزل ريفي جدياً وقطع كل الإمدادات الخدماتية عنه. رابعاً القيام بـ"ضربات إنمائية" عاجلة في مناطق الضعف الحريريّ شمالاً لتبديد الانطباع الشعبيّ بلامبالاة الحريري بهم. أضف الى ذلك كله، أن عودة الحريري إلى السراي من شأنها تبديد الانطباع العام برفع السعودية غطاءها عنه ولامبالاتها بمستقبله المهنيّ والسياسيّ. كل هذا يؤكد الحاجة الحريرية للعودة إلى السلطة قبل إجراء أيّ انتخابات نيابية جديدة. فحصول الانتخابات في ظلّ الوضع الحريريّ الحاليّ يعني وضع الحريرية على حافة الهاوية أياً يكن قانون الانتخابات. والأكيد في هذا السياق أن من يدعون إلى انتخابات نيابية قبل الانتخابات الرئاسية التي ستنبثق منها حكومة جديدة إنما يكنوّن للحريري حباً مماثلاً لحب ريفي له، ويحفرون له فخاً إضافياً.