لم يكن نهائي السباق الرئاسي الأميركي سيحصل أصلاً، بين "الديمقراطية" هيلاري كلينتون و"الجمهوري" دونالد ترامب. بل كان متجهاً إلى مواجهة شاملة بين "النظام" والثورة عليه. قبل أن يتدخل أهل الاستابليشمانت، فيعدلوا ويحوّروا ويزوّروا ... لتنتهي المحصلة إلى ما انتهت إليه الآن.يقول أهل واشنطن من خبراء النظام الأميركي وعارفيه، ان فهم ما حصل على صعيد الانتخابات الرئاسية التمهيدية طيلة العام الماضي، يقتضي البدء من إدراك حقيقة النظام الأميركي وواقعه وطرق عمله. صحيح أننا أمام الدولة ــــ الامبراطورية من جهة. "روما الثالثة" التي لا تزال ــــ رغم كل الكلام التخفيفي أو المنافي ـــــ تحكم العالم وتتحكم بمعالمه. وذلك بفضل تفوقاتها الثلاثة على الأقل: تفوقها العسكري حيث فجوة القدرة التدميرية لا تزال قائمة بينها وبين أقرب منافسيها. وتفوقها الاقتصادي بفضل تلك الورقة الخضراء المعولَمة والمعولِمة. وتفوقها العلمي والتقني، بدليل أرقام موازنات الأبحاث المرصودة في مؤسساتها المختلفة، مقارنة بمثلها في دول الكوكب الأخرى... باختصار إنها الامبراطورية التي، بنحو خمسة بالمئة من سكان الأرض، تستهلك نحو ثلث ناتج الأرض وخيراتها!
لكن في المقابل، هذه الدولة بالذات، هي أيضاً الدولة التي يتركز نسبة أكثر من تسعين بالمئة من ثروتها، في أيدي أقل من واحد بالمئة من أهلها. وهي الدولة التي تحتكر خمس فقط من شركاتها، ملكية أكثر من تسعين بالمئة من وسائل إعلامها. وحين نتحدث عن وسائل الإعلام الأميركية، لا يكون المقصود مجرد سلسلة مرئي ومسموع ومكتوب ووسائط تواصل اجتماعي وتواصل حديث... بل أكثر من ذلك وقبل ذلك، نتحدث عن ماكينة بروباغاندية ضخمة هائلة قادرة على التلاعب بالعقول والميول والأهواء والأذواق. مصنع عملاق لإنتاج ما يستهلكه البشر، وما يستهلكهم في آن... ونحن أمام دولة تكاد تُختزل، في تمركز ثرواتها واحتكار إعلامها، بين لاعبين اثنين: اللوبي الصهيوني من جهة، والمجمع الصناعي العسكري من جهة أخرى. وسط نفور غالبية المواطنين الأميركيين من السياسة اليومية والسياسات الخارجية ومن الحد الأدنى من الوعي السياسي اللازم للمتابعة والمراقبة والمحاسبة ...
كل هذه العوامل كانت تتفاعل في هذا "النظام" طيلة فترة طويلة. إلى أن لاحت فرصة للتعبير عن مؤدياتها سنة 2015. كان الأميركيون على موعد مع انتخاباتهم الرئاسية التمهيدية. وكان الحزبان المسيطران على حياتهم السياسية، يتحضران لإعادة إنتاج طبقة النظام نفسه، من ضمن قواعد اللعبة المحددة. لكن الأميركيين لم يخضعوا لها. لمرة هي من النادرات، خرج الرأي العام الأميركي من صندوق التعليب السياسي والرئاسي. كسر قوالب "ديمقراتوريته". ذهب إلى صناديق اقتراع الحزبين، ليعبر عن رفضه. مجرد الرفض. ولو بأشكال فوضوية وغير منظمة ولا منتظمة. أنصار الحزب الجمهوري، اقترعوا ضد طبقة حزبهم. فكانت النتيجة ظهور تلك الشخصية السجالية الجدلية المسماة دونالد ترامب. اختاروه، كتعبير عن ثورتهم على سياسييهم. كوسيلة تماثل بين مكبوتاتهم وبين عبارته الشهيرة "أنت مطرود" في برنامجه التلفزيوني. كأنما قصدوا استعارتها منه، ليصرخوا "أنتم مطرودون" لكل سياسييهم ولوبييهم وبيروقراطيي مستنقع واشنطن.
الديمقراطيون أيضاً أقدموا على الثورة نفسها. ذهبوا إلى صناديق اقتراع حزبهم لينفذوا انقلابهم على طبقته السياسية المقابلة. فأنتجت صناديقهم رجلاً من خارج صندوقة أنماط الحزب. وظهر اسم برني ساندرز.
بعد بر,. الاسمين تحركت ماكينات الاستابليشمانت في كلا الحزبين. لكن الفوارق كانت حاسمة بين الحالتين. الحزب الجمهوري معروف بطبيعة "الحزب غير المباشر"، بحسب تصنيف دو فرجيه. بينما الديمقراطي حزب مباشر أكثر تنظيماً وهرمية وانضباطاً. ثم إن ترامب يملك إمكانات مالية ومادية وإعلامية كبيرة. لا يملكها ساندرز. هكذا عجز الاستابليشمانت الجمهوري عن شطب ثائره. فحاول تطويقه. فيما استشرس الاستابليشمانت الديمقراطي للإطاحة بثائره المقابل. حتى توسل التزوير والتحوير. ليطيح بالعجوز صاحب الأفكار الأكثر شبابية وإنسانية. وليضمن انتصار طبقته، مع الوريثة الشرعية لنظام فساده، من زمن فضائح أركنساس حتى بنغازي، عاشقة الحروب التي لا حرب لم تحبها، هيلاري رودهام.
بعد إنجاز الانقلاب على ساندرز، تكشفت فضيحة التلاعب بتمهيديات الحزب الديمقراطي. استقالت رئيسته، ديبي واسرمان شولتز. هلك شخص، بدل أن تهلك الجماعة. وفق القاعدة "الإنجيلية". ونجا الاستابليشمانت مرة أخرى.
الآن عادت المعادلة الرئاسية الأميركية إلى دائرة ثقة أهل النظام واطمئنان القيمين على مفاصله. صارت الوريثة في مواجهة الثائر. هي، لا يثق بها سبعون بالمئة من الأميركيين. هو، يخاف منه نحو 55 بالمئة منهم. باتت المعادلة طيعة التنفيذ. بين الشك والخوف، لا عقبات أمام ماكينة التخويف لإقناع الناس. ولو كان خطاب ترامب يركز على هواجس المواطن الأميركي. في خبزه وأمنه. لكن عناصر العداء له أكبر وأكثر. يكفي أن تحشد ضده عناصر الاستابليشمانت، مع رهاب الأقليات، مع نوستالجيا الخطاب "الجندري" وأسطورة أول "سيدة رئيسة"، تماماً كما "إكزوتيسم" أول رئيس ملون قبل ثمانية أعوام ... لينتصر "السيستام" وينجو من الانقلاب والثورة.
أجمل ما في المشهد، أن البعض خارج أميركا، وعندنا تحديداً، يراهن على السيدة الرئيسة، الوريثة للامبراطورية وقيصر روما الجديدة ... المزورة!