مفصل جديد تمرّ فيه الحرب السورية بدأت ملامحه تتكشّف بالاعلان عن فتح إيران قاعدة همدان الجوية أمام المقاتلات الروسية. الضربات التي نفذّتها قاذفات استراتيجية أمس تبرز حدثاً ميدانياً ذا أبعاد استراتيجية، يعيد تموضع محوري الصراع في الساحة السورية، ويشمل أيضاً تموضع الأفرقاء داخل الحلف الواحد. فالقفزة النوعية في التنسيق الإيراني ــ الروسي في سوريا، جاءت بعد خطوات تصاعدية بدأت باطلاق الصواريخ المجنّحة من بحر قزوين مروراً بالأجواء الإيرانية، ثمّ عبور القاذفات المنطلقة من روسيا في تلك الأجواء.الجهر والاعلان الروسي والإيراني في توصيف هذا المعطى الميداني، الأول عبر بيان وزارة الدفاع الروسية (استخدام المطار لقصف اهداف لداعش وجبهة النصرة في حلب ودير الزور وادلب)، ثم تأكيد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني بأن «التعاون مع موسكو في مجال مكافحة الإرهاب في سوريا استراتيجي»، ينطوي على أكثر من رسالة سياسية وعملانية:
على المستوى العملاني ما حصل يمثل تطوراً دراماتيكياً في التنسيق العسكري المباشر، وهذه المرة ضمن برنامج يشمل كافة الفصائل، وعدم الاقتصار على عنوان مكافحة «داعش» الذي حرصت واشنطن على حصر العمليات ضمنه.
هذه الدرجة من التنسيق تؤشر إلى ما يمكن أن يصل إليه الطرفان في المواجهة في سوريا، ما سيكون له تجلياته الميدانية اللاحقة.
مما يميّز هذا الارتقاء في العلاقة ــ وإن لم تسمَّ تحالفاً لكنها لا تبعد كثيراً عنه ــ أنّه يأتي بعد محطات روسية عدة في سوريا بدأت باندفاعة كبيرة في 30 أيلول من العام الماضي قلبت الموازين لمصلحة الجيش السوري، بالتعاون مع «محور المقاومة». ثمّ اقرار اتفاق الهدنة نهاية شباط الماضي بالتنسيق المباشر مع واشنطن، دون الالتفات للعواقب الميدانية المتسببة بها لدمشق وخلفائها. وأخيراً مرحلة بينية، تحافظ على وجهي المحطتين السابقتين، فهي تدمج بين إبقاء مسار التعاون مع واشنطن في تثبيت الهدنة، والعمل على مسارات سياسية وعسكرية مشتركة، بالتوازي مع إعادة تنشيط الدعم الجوّي (بحدود معيّنة) لمصلحة الجيش السوري.
أما الآن، فنحن أمام تطور ميداني ـ سياسي بأبعاد تنطوي على أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه.
جاءت «الخطوة» بعد استنفاد موسكو مراهناتها على تقارب مع واشنطن

في البعد الروسي، أرادت موسكو أن توجّه رسالة مدوية للطرف الأميركي بأنه في حال عدم الاقتراب أكثر من مقاربتها للساحة السورية، فهي لديها بديل استراتيجي وسياسي وعملاني يتمثّل بالمزيد من الاقتراب من إيران، مع ما يعنيه ذلك من نتائج وتداعيات. لذلك لم يأت هذا التوقيت في «الارتقاء» في العلاقة إلا بعد استنفاد موسكو كل مراهناتها على تقارب مع واشنطن، التي ظهر أنّها لا تزال تناور حول مجموعة ثوابت تقوم على حصر المعركة ضد «داعش» وتعزيز مثيلاتها في أماكن أخرى («جبهة النصرة» وحلفائها مثالاً)، وإن كانت الأدبيات الانشائية تُظهر توجهاً جدياً لديها في ضرب «جميع الارهابيين».
ويُظهر الحدث أنّ الحوار الاميركي ــ الروسي الذي جهدت موسكو في المرحلة الاخيرة كي تصل من خلاله إلى أهدافها، لم يفضِ الى نتائج مرضية من جهتها. فالتجاوب الأميركي كان شكلياً ودون ترجمة عملية، وصل إلى حدّ احراج الروس وتقطيع الوقت الذي استفاد منه «جيش الفتح» وخصوصاً في أرياف حلب واللاذقية خلال الهدنة.
لكن من المهم الإشارة أنّ من جهة روسيا، هذه الخطوة لا تعني تحالفاً والتصاقاً بالخيارات الأميركية وأنّها ليست قابلة للتراجع عنها إذا خفضت واشنطن من سقوفها العالية. ورغم ذلك، يبدو أن موسكو لن ترضى بالتراجع إلّا بأثمان أميركية باتت أعلى مما كانت ترضى به سابقاً، الأمر الذي سيكون صعباً على الولايات المتحدة في هذه المرحلة.
كذلك، يظهر أنّ الخطوة الروسية ــ الإيرانية ليست وليدة ساعتها، بل هي نتيجة مسار طويل ساعد على دفعه التسويف الأميركي مع الجانب الروسي، وبدا أيضاً أنّ موسكو طوال محادثاتها (المستمرة) مع «الشريك» الأميركي لتقريب وجهات النظر، كانت تعمل على خيارات بديلة بالتنسيق مع طهران.
ففي نهاية المطاف، أدرك الكرملين أن الأداء والسياسة الأميركية معناهما الفعليان أنّ روسيا ينبغي لها أن تؤدي دوراً وظيفياً في خدمة واشنطن، أكثر منه تنسيقاً بين طرفين. ومن أجل ذلك تحرص موسكو على حدّين في التعامل مع واشنطن: حدّ المناورة وهوامشها، وحدّ عدم الصدام الحادّ اقراراً منها بواقعية التفوق الأميركي وأوراقه العديدة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن ما جرى يمثّل تحدياً بالنسبة لسياساتها في الساحة السورية. وبرغم أنّه من المستبعد أن تقوم بردّ فعل «كبير» قبيل الانتخابات، وأن يخرج الرئيس باراك أوباما عن الثوابت التي حكمت ولايته، فإن تصريح منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج روبرت مالي في مقابلة مع مجلة «فورين بوليسي» أول من أمس، بأن بلاده مستعدة لعمل كل ما بوسعها «لكي لا ينجح النظام السوري»، تشي بعدم التسليم بحكم الأمر الواقع.
مساعد الرئيس الأميركي أوضح أيضاً أنّه «سواء إن كان هناك اختلاف بين ما هو على لسان موسكو، وما يجول في ذهنها... فنحن لا نفقد شيئاً. إننا سنواصل تقديم الدعم للمعارضة السورية، والنظام لن ينتصر»، مشيراً إلى أنّه حينها «لن تعود هناك أي آفاق لإنهاء الصراع قريباً».
وفي أول تعليق رسمي، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية مارك تونر، إنّ استخدام روسيا لقاعدة جوية إيرانية «مؤسف لكنه غير مفاجئ»، مضيفاً أن واشنطن «لا تزال تقيّم مدى التعاون الروسي الإيراني».
في الجانب التركي، لا يمكن عزل التعاون الروسي ــ الإيراني المستجدّ عن خطوات التنسيق والتقارب على خطّ أنقرة ــ طهران وأنقرة ــ موسكو، فنحن اليوم أمام تكتل اقليمي من نوع جديد يقابله تكتّل يعتمد على تركيا كرأس حربة اقليمية، فيما بلاد رجب طيب أردوغان تعيش مرحلة تحوّل تفرض عليها التعامل بواقعية مع أهداف حلفاء دمشق، وخفض سقف طموحها وإن كانت في محور آخر، وما زالت تملك أوراقاً في السياسة والميدان في وجه «محور دمشق».

طهران وتلقف الفرصة

في ما يتعلق بإيران، فهي ترى أنّ المعركة في سوريا هي معركتها، وبمعنى آخر معركة كل محور المقاومة في مواجهة تهديد غير مسبوق له أهداف محددة بإدارة واشنطن وحلفائها الاقليميين. وبالتالي كل حليف سياسي وعسكري يقترب منها يُعد مفيداً، فكيف إذا كانت دولة بحجم روسيا؛ دولة ترى في سوريا حليفاً وفي الجماعات الارهابية تهديداً لأمنها القومي.
الجانب الإيراني استفاد من التعنت الأميركي تجاه روسيا، ويدرك أنّ الأخيرة لم تلجأ لهذا المستوى من التنسيق إلا بعد اصطدامها بالجدار الأميركي.
لذا، تأتي الخطوة المشتركة في سياق تلقف الفرصة بناءً على تصورات مسبقة للصراع في الساحة السورية، وتقديراً بأنّ واشنطن لا تريد التنازل لمصلحة الروس أو التكيّف مع وجودهم في سوريا.
إذاً، نحن أمام محطة إن لم تكن مفصلية، فهي مؤشر على مسار مفصلي شهدنا ولمسنا نتائجه خلال الأشهر الماضية (تحرير تدمر وجزء من البادية ــ تحرير معظم ريف اللاذقية وتأمين الساحل السوري ــ فصل حلب عن العمق التركي في الريف الشمالي، وأخيراً انجاز «الطوق»)، وقد نكون أمام محطة تشي بقفزة ميدانية أخرى قد تقلب مسار الأحداث.