عند الساعة الواحدة من ظهر أمس، انتهت مهلة النيابة العامة الإستئنافية لتمييز الحكم الصادر عن محكمة جنايات بيروت (برئاسة القاضية هيلانة اسكندر)، بحق المجرم محمد النحيلي، قاتل منال عاصي، والقاضي بحكمه 18 شهراً فعليا فقط. المعتصمات أمام قصر العدل كنّ يدركن مسار الأمور: "لن يستأنفوا الحكم"، يقلن بأسى وفي عيونهنّ خوف على أنفسهنّ وبناتهنّ وحفيداتهنّ من قضاء أعاد إحياء جرائم قتل النساء تحت مظلة "الشرف". والدة منال، التي حضرت في الإعتصام، أرادت أن توضح الملابسات "لقد أسقطت حقي الشخصي مجبرة بعدما هدد محمد النحيلي بقتل أولادي، وبعدما تعرّض أفراد من قِبله لأولادي ولممتلكاتي. خفت لإنو مجرم ممكن من قلب الحبس يبعت زعران يقتلونا... شو بيفيدني ساعتا الحكم؟ 18 شهر ورح يطلع مين ممكن يحمينا؟". يثبت هذا الأمر مجدداً أن محمد النحيلي شخص عنيف وخطير على المجتمع، وأن ما اقدم عليه لم يكن أبداً "فورة غضب" بحسب الحكم الصادر. أرادت الوالدة المفجوعة أن تقول بحضورها أمرا واحدا: "انا انجبرت بس انتو كحق عام كنت متكلة عليكن". أخت لطيفة قصير التي قتلها طليقها عام 2010، حضرت أيضاً. عذّبها 4 ساعات قبل أن يخنقها وصدر الحكم بأنها أثارت غضبه فقتلها. "انا لهيك جيت"، تقول أخت لطيفة، "نفس الكلمة بالحكم". عند الواحدة غادرت المعتصمات خائبات، بعدما اعتصمن للمرة الثانية من أجل المطالبة بتمييز الحكم. الأمل الوحيد الباقي، بعد انقضاء مهلة النيابة العامة الإستئنافية، بات في عهدة النيابة العامة التمييزية، التي لا يزال لديها شهر لتمييز الحكم، إن أرادت، بعدما انقضى شهر من مهلتها. يقول المدعي العام التمييزي سمير حمود لـ "الأخبار" إنه "يدرس الملف وسيرى إمكانية تمييزه".
إلّا أنّ القضية اليوم لم تعد تحتمل النظر في "إمكانية التمييز"، إنّما العدالة تقتضي من النيابة العامة التمييزية أن تميّز الحكم بغض النظر عن رأيها فيه، سواء أكانت مؤيدة أم معارضة له، لأن هناك جزءا كبيرا من الرأي العام يعدّ الحكم غير عادل. وبالتالي اذا كانت النيابة العامة التمييزية تسعى فعلا الى تحقيق العدالة، فهي لا يمكن أن تقبل إبرام حكم نهائي بجريمة قتل باتت قضية رأي عام، استناداً إلى حكم محكمة الدرجة الأولى، إنما من واجبها فتح التقاضي بالدرجة الثانية، أي الإنتقال الى محكمة التمييز، لتحقيق أقصى ما يمكن من العدالة، ولا سيما ان الحكم الصادر يعيد انتاج مفهوم "جريمة الشرف"، بعدما حُذف من القانون بفعل نضالات قاسية.
من واجب النيابة العامة فتح التقاضي بالدرجة الثانية

ترى المحامية والناشطة الحقوقية إقبال دوغان أنه "يجب العمل اليوم على القانون، بحيث يكون تمييز الأحكام إلزاميا في حالات القتل". من هنا، تبرز أهمية مبدأ التقاضي على درجتين، الذي "يسعى إلى تحقيق العدالة وترسيخ حق الدفاع المقدس، فإذا رأى أحد الأطراف أنّ العدالة لم تتحقق في الدرجة الأولى، فلديه الحق في أن يلجأ إلى استئناف الحكم أمام محاكم الدرجة الثانية"، تقول المحامية منار زعيتر. وعلى الرغم من إجبار محمد النحيلي عائلة منال على إسقاط حقها الشخصي، فإن دور النيابة العامة التمييزية بات تحقيق مبدأ التقاضي على درجتين بعيداً عن رأي المدعي العام التمييزي بالحكم. تقول زعيتر أن "النيابة العامة وُجدت للدفاع عن المجتمع وهي تمثّل الحق العام، وبالتالي هي خصم في الملف بعيداً عن إسقاط الحقوق الشخصية وموقفها أقوى لأنها مسؤولة عن الإستقرار والأمن الإجتماعي". فالسياق الإجتماعي -الديني مثّل مظلة لحكم محكمة الجنايات، وعليه فإن دور النيابة العامة هو حماية الفئات الأكثر تهميشاً من هذه المنظومة الظالمة.
تستغرب المحامية ميريام مهنا "عدم إقدام النيابة العامة على تمييز الحكم وبالتالي السماح لمحكمة التمييز باعادة المحاكمة، على الرغم من أن مصلحة المجتمع في هذه القضية مهددة على نحو فعلي وواضح وهناك تفسير خاطئ للقانون وهذا باب للتمييز". فالحكم الصادر فتح الباب أمام إشكالية خطرة متمثلة بإعادة إحياء جريمة الشرف التي الغيت من القانون عام 2011، ولأن الإجتهاد هو مصدر للتشريع ودور محكمة التمييز يقضي برسم الخط النهائي للاجتهاد في مسألة معينة، فإن محكمة التمييز مطالبة بأن تجيب، وفق مهنا، على أسئلة عدة منها: كيف تفسر تطبيق المادة 252 من قانون العقوبات في هذه القضية في ظل الغاء المادة 562 التي تتحدث عن جرائم الشرف؟ اذ ان المادة 252 تنص على أنه «يستفيد من العذر المخفّف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج من عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه». فما هو مصير عذر الغضب في حالات الزنى؟ تضيف زعيتر إلى هذه التساؤلات سؤال آخر: ما هي الأعمال غير المحقة برأي محكمة التمييز؟ كل هذه الأسئلة ستجيب عنها محكمة التمييز إذا جرى تمييز الحكم، وستُصدر بذلك اجتهاد قضائي للمرة الأولى تحدد فيه ماهية العمل غير المحق.
برأي مهنا "اظهرت هذه القضية ان النيابة العامة الاستئنافية ومحكمة الجنايات لديهما موقف محافظ جدا اجتماعيا، إذ انهما شرّعا واستسهلا وتفهّما ان هناك ظروف اجتماعية تسمح بقتل الزوجة، وبذلك كسرا المساواة بين المرأة والرجل في الحماية ضد القتل، وهو المبدأ الذي بني عليه الغاء المادة 562".
لكن عدم نجاح الضغوط التي تمارسها الجمعيات في دفع النيابة العامة الى التحرك، يفتح النقاش حول آليات عمل هذه الجمعيات. فمن الواضح ان الإعتصامات "الهادئة" لا تجدي نفعاً في أخذ حق منال عاصي واخريات، وبالتالي يجدر على الهيئات المتابعة للقضية أن تصعّد جدياً قبل انتهاء مهلة النيابة العامة التمييزية عبر تغيير أساليب تحرّكها وفرض مطالبها على القضاء، على النساء ان يُزعجن القضاء دفاعاً عن حقوقهنّ.