معركةً إثرَ أخرى تُثبت «جبهة حلب» مركزيّتها. ومع عدم التقليل من شأن معظم الجبهات المفتوحة على امتداد الجغرافيا السوريّة، بات من المُسلّم به أنّ لـ«عاصمة الشّمال» ثقلاً استثنائيّاً. وبات معلوماً أنّ تمكّن أحد الأطراف من حسم المشهد الحلبي سيكفلُ له فرض إيقاعه على المراحل التالية من الحرب بشقّيها العسكري والسياسي. لم تكن هذه المعادلة خافيةً على أيّ من اللاعبين في الملف السّوري منذ حطّت الحرب رحالها في العاصمة الاقتصادية للبلاد قبل أربعة أعوام. وتُفسّر هذه المُسلّمة استماتة معسكري النزاع الأساسيّين في صراع «الطوق» الذي بدأ التخطيطُ له فعليّاً قبل قرابة عامين، وانطلقت آخرُ جولاته قبل أكثر من شهرين. وكما كان تطويق الجيش السوري وحلفائه للجزء الشرقي من المدينة عمليّةً شاقّة ومعقّدة، فإنّ تقويض «الطوق» برمّته وضرب «طوق» معاكس يبدو على أرض الواقع هدفاً أكبر بكثير من مجرّد معركة. من هذه الزاوية يبدو توصيف ما حقّقته المجموعات المسلّحة خلال الأيام الأخيرة على أنّه قلبٌ جذري لمسار الطوق ضرباً من المبالغة. لكنّ ذلك لا يعني في الوقت نفسه التقليل من شأن «الإنجاز» الذي تشاركت في تحقيقه سبع وعشرون مجموعةً مسلّحة (تُشكّل التنظيمات «الجهاديّة» عمودها الفقري) وبدعمٍ مفتوحٍ من الداعمين التقليديين. وذهبت بعض المصادر «الجهاديّة» إلى الحديث عن مشاركة زهاء عشرة آلاف مقاتل في معارك حلب الأخيرة. وتُشكّل السيطرة على كتلٍ متراصّة من المباني العسكريّة (كليّة المدفعيّة، كليّة التسليح، الكليّة الفنيّة الجويّة) حدثاً بارزاً في حدّ ذاتها. وكان من شأن هذا «الإنجاز» أن يقلب الموازين رأساً على عقبٍ لو أنّ المجموعات المسلّحة قد تمكّنت من تحقيقه قبل أسبوعين من الآن، وهو (رغم تأخره) ما زال كفيلاً بتعقيد المشهد الحلبي من جديد في حال نجاح المجموعات في «تثبيت السيطرة». ويأتي العامل الزمني على رأس جملة ملاحظات بارزة تفرضُ نفسها في شأن تطوّرات المشهد الحلبي.
تحدثت مصادر «جهاديّة» عن مشاركة زهاء عشرة آلاف مقاتل في معارك حلب
ورغم ميل بعض القراءات إلى ربط تأخّر الداعمين في منح المجموعات المسلّحة الضوء الأخضر (وكل ما تستلزمه معارك مماثلة لمعارك الراموسة) بإقدام «جبهة النصرة» (التي غيّرت اسمها إلى «فتح الشام») على خطوة «فك الارتباط»، غيرَ أنّ هذا التفسير سيفقد قيمته أمام الدور الذي لعبه «الحزب الإسلامي التركستاني» في المعارك المذكورة، وأمام التبنّي الكامل الذي يحظى به رغم تصنيفه إرهابيّاً على كل اللوائح العالميّة. ومن المرجّح أنّ «التوازنات» الدوليّة التي حكمت الحرب في حلب على امتداد السنوات المنصرمة قد عادت لتطلّ برأسها بعد الانعطافة التي فرضها الجيش وحلفاؤه إبّان ضرب الحصار على الجزء الشرقي من المدينة. كذلك، ينبغي النظر بعين الاعتبار إلى الأسلوب الذي اتّبعته المجموعات «الجهاديّة» وحلفاؤها في معارك الراموسة وما سبقَها، وهو أسلوبٌ اتّسم بـ«حرفيّة» ملحوظة. وطوّرت الهجمات تكتيك «الهجوم البرقي» الذي كان استخدامه (حتى وقت قريبٍ) مسجّلاً شبه حصري باسم المجموعات الشيشانيّة المنضوية في صفوف تنظيم «داعش». ويقوم هذا التكتيك على مهاجمة النقاط المستهدفة عبر موجات متتابعةٍ من «الانغماسيين» الموزّعين على مجموعات صغيرة. ولعب هؤلاء دوراً أساسيّاً في الحد من فاعليّة سلاح الطيران الذي يصبح تدخّله ضرباً من المغامرة مع تحوّل المعارك إلى مواجهات مباشرة بين المشاة. وربّما كان هذا التفصيل أحد أسباب اتخاذ غرف عمليات الجيش السوري وحلفائه قراراً بـ«إخلاء الكليّات»، وهو أمرٌ برّرته مصادر عسكريّة بتعرض «المنطقة الجنوبية الغربية لهجوم عنيف من قبل الفصائل المسلحة» أدى إلى «تراجع ‏الجيش عن بعض النقاط، والتموضع في خطوط دفاعية جديدة». وبدا لافتاً أنّ المصادر تحدّثت عن «إعلان المنطقة منطقة عمليّات مفتوحة» في إجراء غير مسبوق. وأتبعت مصادر «الإعلام الحربي» هذه التصريحات بأنباء عن «غارات سوريّة روسيّة سوّت كليّة التسليح بالأرض (بعد إخلائها)»، في مؤشّر على المسارات التي قد تسلكها المعارك في الأيّام المقبلة وتحوّلها إلى العمل وفق مبدأ «الأرض المحروقة». المصادر ذاتها أكّدت أنّ «المسلّحين، وبعد سقوط أكثر من 500 قتيل وآلاف الجرحى، استطاعوا فتح ممر عسكري ضيق»، وأنّ الجيش السوري «يواصل استهدافه بالوسائط الناريّة المختلفة». ومع تحفّظه على الخوض في التفاصيل، أكّد مصدر ميداني سوري أنّ «الوضعَ ما زال في نطاق السيطرة، رغم كل التهويل الذي يمارسه الإرهابيّون وداعموهم». وقال المصدر لـ«الأخبار» إنّ «معارك الأيّام الأخيرة ليست سوى جولةٍ في إطار معارك الطوق التي بدأها الجيش وحلفاؤه، ولن تكون نهايتُها إلا بتحقيق كامل أهدافها المعلن منها وغير المعلن». وحملت الساعات الأخيرة من ليل أمس مؤشّرات كثيرة توحي بأنّ الجيش وحلفاءه بصدد العمل على خطط تناسب المستجدات. وبدا لافتاً ما نقلته وكالة «سانا» عن مصدر عسكري حول «تثبيت مواقع الجيش والقوّات المسلّحة في محيط الكليّات العسكريّة»، مع ما قد يعنيه هذا التصريح من البحث عن ترسيم خطوط اشتباك وسيطرة جديدة. على المقلب الآخر، لم تخرج تصريحات مصادر «جيش الفتح» عن إطار التوقّعات بعد الزخم المعنوي الكبير الذي حظيت به في ضوء نتائج المعارك الأخيرة. وتوعّدت المصادر بـ«مرحلة جديدة للعمليّات» وضعت هدفاً لها «السيطرة على كامل مدينة حلب». لكن تحقيق هذا الهدف يحتاج أكثر بكثير من «الزخم المعنوي»، وقد سبق للمجموعات أن حاولت تحقيقه من دون طائل رغم الظروف الصعبة التي كان الجيش يعيشها في حلب. وفي انتظار تطوّرات الساعات المقبلة، تبقى المدينة على بعد «نصف خطوة» من اتجاهين متناقضين: فإمّا الدخول في «ستاتيكو» جديد، أو الذهاب نحو فصل جديد من التصعيد غير المسبوق، في ظل سعي كلّ من الطرفين نحو تحصين إنجازه.