مشاكل اقتصادية، خضات سياسية، ومخاوف صحية. هذه هي الأجواء التي كانت تعيشها البرازيل عشية افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، التي تشكّل تحدّياً كبيراً لبلدٍ يعيش على التحديات الصعبة حالياً بعيداً من الملاعب الرياضية. هي التحديات نفسها التي عرفتها البرازيل قبل افتتاح كأس العالم لكرة القدم قبل عامين، وهي التحديات التي أتعبت البلاد في كل مرة أرادت فيها استضافة أحد الأحداث الرياضية الكبرى.نحن اليوم نتكلم على ريو دي جانيرو، التي باتت أول مدينة أميركية جنوبية تستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية، وأول مدينة ناطقة باللغة البرتغالية تفتح ذراعيها للعالم أجمع في أكبر تظاهرة رياضية.
زائر ريو دي جانيرو سابقاً يفهم فقط الكلام الآتي الذي قد يثير الغرابة عند الكثيرين. ريو دي جانيرو هي أفضل مدينة لاستضافة الألعاب الأولمبية حالياً، إذ رغم كل شيء، ورغم كل ما يحيط بالبرازيل من مشاكل متفرقة، ورغم ارتفاع مؤشر الجريمة في ريو تحديداً هذه السنة، تبقى الحال الأمنية أفضل بكثير مما تشهده أوروبا، التي تنفّست الصعداء بعد نهاية كأس أوروبا لكرة القدم الشهر الماضي حيث شُغلت كل أجهزة استخبارات الدول الكبرى لتأمين الحدث الذي احتضنته فرنسا، وإخراجه من دون أي حادثة أمنية تذكر، وهو ما حصل.
زائر ريو دي جانيرو سابقاً يعلم تماماً أنها إحدى أفضل المدن في العالم لاستضافة الألعاب الأولمبية، فهي المدينة التي تتنفس الرياضة، وحيث الرياضة هي احتفال فعلاً بالنسبة إلى قاطنيها الذين يصل عددهم إلى 6.5 ملايين نسمة. كيف لا تكون الرياضة كرنفالاً في مدينة الكرنفال الأشهر، وهناك يربض ذاك الاستاد التاريخي المعروف بملعب "ماراكانا" حيث كتب البرازيليون ملاحم في اللعبة التي كانوا الأفضل فيها في فترات تاريخية عدة، أي كرة القدم؟ هذا الملعب الذي احتضن المباراة النهائية لكأس العالم عام 1950، ولم يشِخْ قَطّ، ليأتي في الألفية الجديدة ويستضيف قبل عامين نهائي المونديال الذي ابتسم لألمانيا بطلة العالم حالياً.
30 مليار دولار هي الاستثمارات الأجنبية في الألعاب الأولمبية

سحر ريو دي جانيرو استثنائي بشاطئ "كوباكابانا" الذي خرجت منه المواهب الكروية لتجوب العالم، وأخذ منه السياح بعض حبات الرمل تذكاراً من بلدٍ يصفه كثيرون بعاصمة الجريمة في العالم، بفعل وجود 22 مدينة برازيلية على لائحة المدن الـ 50 الأكثر خطورة في العالم. لكن ريو تنفصل عن واقعها وعن البلد الذي يحتضنها عندما يرتبط الأمر بالرياضة، ولهذا السبب، وبعد محاولتين فاشلتين لاستضافة الأولمبياد، أصرّ القيّمون على فكرة استضافة ريو دي جانيرو دون غيرها من المدن البرازيلية الألعاب الأولمبية.

الألعاب تنقذ البلاد

يفتح تمثال السيد المسيح ذراعيه أمام العالم كلّه، وتفتح ريو دي جانيرو باباً للبرازيل للوقوف على قدميها بشكلٍ أو بآخر، إذ إن "برازيل لولا" التي فازت بشرف استضافة الألعاب، هي غيرها البرازيل الحالية التي لفظت الرئيسة ديلما روسيف وأطل منها اللبناني الأصل ميشال تامر رئيساً. البرازيل اليوم تعيش أسوأ تخبّط سياسي في تاريخها منذ انتقالها إلى النظام الديمقراطي، وأسوأ فترة ركود اقتصادي منذ 100 سنة، بعدما كانت واحدة من أكثر الدول سرعة في النمو الاقتصادي.
لكن ما علاقة الألعاب الأولمبية واستضافتها بهذا الكلام؟
قبل 7 أعوام، وعندما أعلنت اللجنة الأولمبية الدولية منح ريو شرف الاستضافة، اجتاح البرازيليون شاطئ "كوباكابانا" ليحتفلوا بهذا النصر التاريخي، لكنهم عشية افتتاح الألعاب اجتاح قسمٌ منهم الطرقات تماماً كما فعلوا قبل افتتاح المونديال مطالبين بصرف الأموال على الضرورات المعيشية والاجتماعية، بدلاً من صرفها على تشييد المرافق الرياضية.
صحيح أن رئيس اللجنة الأولمبية البرازيلية كارلوس ارتور نوزمان ضغط دائماً لاستضافة البلاد لأحداث رياضية كبرى من أجل استغلال هذه المناسبات لتجديد الاستادات وغيرها، وتنشيط الوضع التسويقي الرياضي، إلا أنه يفترض القول إن في حالة الألعاب الأولمبية قد يختلف الوضع بمكان إذا ما ذهبنا إلى لغة الأرقام.
المتابع عن كثب يعلم أن مستوى البطالة في البلاد وصلت نسبته إلى 11%، وهو رقم رهيب مقارنة بعدد سكان البرازيل. وتأتي الألعاب الأولمبية، وبعدها النسخة الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة لتؤمّن مساحة عمل، ولو مؤقتة، لشريحةٍ كبيرة من أبناء المدن المختلفة، وعلى رأسها ريو دي جانيرو، حيث يغيب التوازن بين طبقات المجتمع.
والألعاب الأولمبية بشقيها قد تعطي البلاد مساحة للتنفس إذا ما صحّ تقرير وزارة الرياضة التي توقّعت أن تجلب 30 مليار دولار من خلال استثمارات أجنبية في الألعاب، وهو رقم مخيف في ظل الأزمة التي تغرق فيها البلاد.
هي البرازيل بشغفها، وهي ريو دي جانيرو بسحرها، وهي الألعاب الأولمبية التي إذا لم تعكّر صفوها الأحداث الأمنية، فلن يكون غريباً أن يُقال إنها الأجمل في التاريخ.