«الذاكرة هي الحياة؛ تحملها دائماً مجموعات من البشر الأحياء، وبالتالي هي في تطوّر مستمرّ»؛ إريك هوبزباوم، زمن الإمبراطورية 1875-1914.تواجه أوروبا اليوم، إلى جانب أزمتها الاقتصادية، أزمة هوية هي الأشد منذ نهاية الحرب الباردة. وفي محاولة لفهم إشكالية الهوية الأوروبية الجامعة في مواجهة الهويات الإقليمية و/أو القومية، لا مفرّ من العودة إلى تاريخ أوروبا وما يحويه من ديناميات صاغت ما درجنا على تسميته اليوم «القيم الأوروبية»، التي تستند إليها جميع محاولات بناء هوية أوروبية موحّدة.
إريك هوبزباوم (1917-2012) هو أحد المفكرين الأوروبيين الذين أرّخوا لذاكرة أوروبا منذ أيامها الأولى، حين راج تعريفها ككيان جغرافي منفصل، أو كقارة بذاتها، وحتى أيامنا هذه، مروراً بكلّ ما شهدته من حروب وثورات واستعمار وأزمات ومساعٍ للوحدة. وبخلاف الكثير من زملائه، لم يسعَ المؤرخ البريطاني في أعماله إلى إيجاد مبررات تاريخية للوحدة الأوروبية تعود إلى مئات السنين ــ لا بل إلى آلاف السنين كما يحلو لبعض أدعياء «الذات الأوروبية» المثالية ــ، بل هو قال بمنتهى الصراحة خلال حديث في عام 2007 إنه من المشككين في مشروع الكيان السياسي الأوروبي الموحّد، الذي «ليس سوى ردّ فعل عابر على حروب القرن العشرين الكبرى».
العودة إلى أفكار هوبزباوم وبعض كتاباته لا تهدف إلى التنبؤ بمصير الاتحاد الأوروبي السياسي ــ الاقتصادي بقدر ما هي محاولة لاستشفاف أسباب أزمة أوروبا الحالية والاحتمالات المفتوحة أمام الدول الأوروبية، وذلك انطلاقاً من استعراض لذاكرة أوروبا كما يراها هوبزباوم.
يقسم المؤرخ البريطاني تاريخ أوروبا الحديث إلى أربعة أطوار: زمن الثورة (1789 - 1848)، زمن رأس المال (1848 - 1875)، زمن الإمبراطورية (1875 - 1914) وزمن التطرّف (1914 - 1991). لو أنّ هوبزباوم لا يزال حياً اليوم، ما عساه يستنتج من التطورات التي شهدتها السنوات الأخيرة على الصعيد الأوروبي؟ وأيّ توصيف عساه يطلق على القارة العجوز منذ عام 1991 حتى يومنا هذا، استكمالاً لنهجه؟

متى اتّحدت أوروبا؟

في مقال يعود إلى عام 2008، يقول هوبزباوم إنه لا يمكن الحديث عن «تاريخ أوروبي» صرف قبل سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وقبل انفصال ضفّتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية الدائم مع الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا. قبل ذلك، لم تتحد أوروبا حصراً تحت راية أي إمبراطورية، فدولة الإغريق توسعت في آسيا وأفريقيا أكثر مما انتشرت في أوروبا، وإمبراطورية الإسكندر المقدوني امتدت من مصر إلى أفغانستان، والإمبراطورية الرومانية امتدت من سوريا إلى مضيق جبل طارق. بيد أنّ السمة الأساسية لجميع هذه الإمبراطوريات، بما فيها الرومانية، هي أن أياً منها لم ينجح في إحلال سيطرته فعلياً خلف نهرَي الراين والدانوب. بعبارة أخرى، كانت تلك الإمبراطوريات السالفة الذكر متوسطية، بالمعنى العملي، أكثر منها أوروبية. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ تفكك الإمبراطورية الرومانية حتى الحقبة الحديثة، لم تشهد أوروبا أي إطار مشترك للسلطة أو مركز للثقل، بل غرقت طوال 15 قرناً في حروب خارجية وداخلية مزّقتها إلى عشرات الدول. وتأكيداً على الطابع الاستثنائي للاتحاد الأوروبي وعلى غياب صلة مباشرة بينه وبين مسار أوروبا التاريخي، يقول هوبزباوم إن المرّات الوحيدة التي اقتربت فيها أوروبا من الوحدة كانت خلال «الغزوات» العسكرية. لا بل إن «الغزوتين» الواسعتي النطاق الأقرب إلى الحقبة المعاصرة ــ أي حروب نابوليون وهتلر ــ لم تستمرا سوى بضع سنوات ولم تشكلا قوى تاريخية دائمة. وبالتالي، يمكن القول إن أوروبا لم تتحد البتة قبل النصف الثاني من القرن العشرين. لكن ما هي النتيجة المنطقية لذلك؟

البحث عن هوية

نظراً إلى أن أوروبا لم تشهد أي وحدة فعلية قبل إنشاء الاتحاد الأوروبي، لا يمكن القول إذاً إنّ للوحدة الحالية جذوراً تاريخية مباشرة. يقول هوبزباوم إنه بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، مروراً بقيام الدول القومية وما يسمّيه «الثورة المزدوجة» (أي الثورة الصناعية في بريطانيا، التي شكلت بداية ظهور التكنولوجيا الحديثة، والثورة السياسية في فرنسا، التي أنتجت مفاهيم السياسة الحديثة، وهما أعمدة الثقافة والهوية الأوروبيتين حتى يومنا هذا)، وصولاً إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن لأوروبا أي هوية مشتركة. لا بل إنّ هوبزباوم يقول إن من يعتبر أن أوروبا وجدت هويتها الضالة في «الإرث المسيحي» يرتكب مغالطة تاريخية، إذ إن المسيحية لم تكن يوماً عاملاً كفيلاً بتوحيد الأوروبيين (لمقاومة الغزوات الخارجية مثلاً)، والحروب الصليبية لم تكن سوى حملات هجومية هدفها تكريس سلطة البابا في العالم المسيحي، وفقاً له.
وعي الأوروبيين الذاتي لم يبدأ إلا بعد اكتشافهم «العالم الجديد»، فالإسبان والبرتغاليون والإنكليز والهولنديون والفرنسيون والإيطاليون لم يدركوا «أوروبيتهم» إلا في مواجهة «الآخرين». تلك هي الحقبة التي ظهرت فيها صفة «أوروبي» كمصطلح سياسي، ولا تزال الحال كذلك حتى اليوم. ويقول هوبزباوم إنه بالرغم من جميع مساعي التوحيد والتوليف، لا أحد يعرّف عن نفسه اليوم، لدى سؤاله عن هويته، بأنه «أوروبي»، إلا إذا أراد التمايز عن الأميركيين الشماليين مثلاً، ولذلك دلالات مهمة. لا تزال الدول القومية هي أساس الهوية، وكلّ منها يجاهر بجذور إثنية ولغوية وثقافية ــ تاريخية تميّزها عن سواها.
الهوية الأوروبية الوحيدة اليوم التي تدفع بأبناء فرنسا وألمانيا وبريطانيا مثلاً للتعريف عن أنفسهم بأنهم «أوروبيون»، قائمة على مبادئ الليبرالية الديموقراطية والرأسمالية الخاضعة لسقف الرعاية الاجتماعية، وهي ليست حكراً على أوروبا أساساً ولم تظهر ضمن المنظومة السياسية الأوروبية سوى في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. هنا يبدو جلياً أن الاتحاد الأوروبي جاء بقرار «من فوق» (غير ديموقراطي) كردّ فعل على حروب القرن العشرين لتجنب صراعات مماثلة في المستقبل، لا كرغبة شعبية مفاجئة.
تعيد أوضاع أوروبا اليوم التذكير بفترة ما بين الحربين العالميتين

زمن انعدام اليقين

إذا جرى التسليم بأنّ الجامع الأساسي بين الأوروبيين هو نظامهم السياسي ــ الاجتماعي، الذي يشكل أيضاً قوام الاتحاد الأوروبي، فما الذي يبقى حين تعلو الأصوات المعارضة للاتحاد؟
تعيد أوضاع أوروبا اليوم التذكير بفترة ما بين الحربين العالميتين، حين شرع السياسيون من أقصى يمين الطيف السياسي وأقصى يساره في زيادة النقاش السياسي تطرفاً، فيما دخلت الاقتصادات مرحلة الفوضى. يبدو اليوم أن داخلين جدداً يساهمون في إضعاف النظام الأوروبي القائم، فأحزاب ذات توجهات يسارية، كـ«سيريزا» اليوناني مثلاً، ترفض سياسات الاتحاد الأوروبي التقشفية المبنية على أساس رأسمالي، وأحزاب اليمين ترتاب أكثر فأكثر من نموذج الاتحاد شبه الفدرالي (الذي في نظرها يهدد الدولة القومية وخصوصيتها)، فيما العنصرية ورهاب الأجانب يتصاعدان بشكل لا سابق له.
قلق هوبزباوم الأساسي يمكن التعبير عنه بأن الأوروبيين لا يزالون اليوم، تماماً كما في الماضي، يعرّفون عن أنفسهم بحسب جنسياتهم القومية، ولا يتذكرون «أوروبيتهم» إلا في مواجهة الغرباء. في استشراف صائب للمستقبل، قال هوبزباوم في عام 1999 (وكررها في عام 2012) إنه يبدو أن رهاب الأجانب سيكون الإيديولوجية الطاغية في أوروبا في القرن الواحد والعشرين. يبدو ذلك واضحاً في سياق أزمة اللجوء، التي تمثل إحدى بوادر تلاشي الوفاق الأوروبي.
لعلّ العنوان الأمثل لتوصيف الزمن الحالي الذي تعيشه أوروبا، هو زمن عدم اليقين بالمسلّمات. والحقيقة التي تذكّر بها كتابات هوبزباوم هي أن تاريخ أوروبا يشهد على الكثير من التفكك ولا يحوي سوى القليل من تجارب الوحدة الناجحة إنما غير الدائمة.
يبدو واضحاً أنّ مشكلة الاتحاد الأوروبي راهناً، تكمن في إيديولوجية «الأوروبانية» التي تسعى قوى بروكسل جاهدة إلى تكريسها، بالرغم من عدم توفر الأرض الخصبة لها، الأمر الذي بدأ بإنتاج ردّ فعل عكسي، وخصوصاً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية وغياب التوافق الأوروبي حولها. يضاف إلى ذلك، إدراك قادة الاتحاد الأوروبي خطر افتقارهم إلى الشرعية الديموقراطية لفرض القرارات على الدول الأعضاء (وهي مشكلة أساسها في طريقة إنشاء الاتحاد). أبرز تجليات هذه المشكلة كان الاستفتاء الشعبي في بريطانيا المؤيد للخروج من الاتحاد، بينما تشير الاستطلاعات إلى رغبة واسعة النطاق في بلدان أخرى لإجراء استفتاءات مماثلة، قد تكون نتائجها شبيهة بما شهدته بريطانيا، نظراً إلى تنامي الحركات المشككة بجدوى الاتحاد الأوروبي، إن كان من اليمين أو اليسار.
وإن لم يجد الاتحاد الأوروبي حلاً شاملاً لهذه المشاكل في المستقبل القريب، تشير التجارب التاريخية إلى أنه سيواجه مستقبلاً سلبياً. لكن، هل يمكن عكس هذا المسار؟
يرى البعض الأكاديميين الأوروبيين أنّ أمام أوروبا (كمشروع سياسي) خيارين: إما أن تنتقي كل دولة السياسات التي تلائمها، ولكن من الصعب وضع حدود لذلك، ما يعني تفكك الاتحاد تلقائياً. وإما أن تطرح بروكسل تحويل منطقة اليورو إلى كيان موحّد (لأن أي اتحاد مالي لم ينجح تاريخياً من دون اتحاد سياسي موازٍ). لكن، في ظل التنويه بما يذكّر به هوبزباوم، أي غياب الهوية «الأوروبية» المشتركة التي يُفترض أن يُبنى على أساسها أيّ كيان مماثل، فإنّ التجارب تشير إلى أن المصالح القومية، لا مساعي الوحدة، هي التي تتنامى في زمن الأزمات.




من يفكك «الاتحاد»؟

في مقال نُشر في صحيفة «لوموند» الفرنسية أخيراً، يقول أستاذ العلوم السياسية البلغاري، إيفان كراستيف، إنّ احتمال تفكّك الاتحاد الأوروبي بات جدياً بعد استفتاء بريطانيا، مضيفاً إنّ ذلك لن يعني عودة أوروبا ببساطة إلى عهد الدول القومية، إذ إنّ احتمال إعادة إجراء استفتاء في اسكتلندا حول انتمائها إلى المملكة المتحدة (إضافة إلى النزعات الانفصالية الأخرى كما في كتالونيا مثلاً) يوحي بأنّ تفكك الاتحاد سيتبعه تشظّي بعض الدول كما نعرفها أيضاً. ولكن أيّ آلية يُحتمل أن تفضي إلى التفكك؟ هل هي التخلي عن هدف «تطوير الوحدة»، أم إلغاء بعض إنجازات الاتحاد كاتفاقية الشينغن ومنطقة اليورو ومحكمة العدل الأوروبية؟
يعتبر كراستيف أن الخطر الأكبر على الاتحاد ليس في الخطاب الشعبوي والاستفتاءات، بل في شلل المؤسسات وتعامل النخبة الأوروبية مع الأزمة. فالدرس الأهم الذي تعلّمنا إياه تجارب سابقة، كتفكك الاتحاد السوفياتي مثلاً، هو أنه في ظروف التخبّط وعدم اليقين، من المرجح أن تُبادر دول المركز، لا الأطراف المتضررة، إلى الانفصال أولاً. لذا، فولاء ألمانيا الظاهر للاتحاد قد ينقلب إذا ما استشعرت نقمة بلدان أخرى تخشى هيمنة ألمانيا على الاتحاد بعد خروج بريطانيا.