يُروى أنه في لقاء الطلاق بين إردوغان ورئيس وزرائه ووزير خارجيته السابق داود أوغلو، قال السلطان النيو عثماني للصدر الأعظم الأكاديمي ما مفاده: لم يعد بإمكاننا الاستمرار معاً. لقد تناقضت قراءاتنا وتقديراتنا. قلت لي إن مرسي سيصمد في القاهرة، فسقط. وأكدت لي أن بشار سيسقط في دمشق، فصمد. ونظّرت لنا بأن الاتجاه شرقاً سيؤمّن لنا وضعية صفر مشاكل، فأدرنا ظهرنا للغرب لنجد أنفسنا مع صفر أصدقاء. اليوم صرنا أمام احتمال من اثنين: إما أن تسقط تركيا معنا، وإما أن نسقط نحن. آن أوان التغيير قبل الهاوية!طار رئيس الوزراء التركي، وحلّ بدله "وزير أول" جديد في نظام تغيّر موقع السلطة فيه قبل أن يتغيّر دستوره ومن دونه. سقط شاغل الموقع الأول دستورياً، أي رئيس الوزراء، لحماية "الشخص" الأول فعلياً، أي زعيم الإسلام السياسي التركي الحديث. تصرّف إردوغان تماماً كما يتصرف كل الديكتاتوريين في العالم وفي التاريخ. سعى إلى كبش فداء. إلى أضحية تقدّم عنه. علماً أن ما حمّله لرفيق دربه السابق، من أخطاء في السياسة الخارجية، كان مسؤوليته هو أولاً وأخيراً. تصرف من موقع زعامة تركيا، تماماً كما لو أنه لا يزال رئيس بلدية عاصمتها. يجيد كيف يخاطب "البلديين"، لكنه يفشل في التخطيط لتموضع بلده إقليمياً ودولياً. وهو في هذا المجال لم يشذّ عن ظاهرة أترابه من رؤساء البلديات الذين صاروا زعماء دولهم. من جاك شيراك وإيهود أولمرت إلى أحمدي نجاد وصولاً إلى شعبوية "الريس" السابق بوريس جونسون في الاستفتاء البريطاني الأخير. كأن في الأمر عارضاً من عوارض "الانحراف المهني". في أن يرتقي مسؤول بلدي إلى مسؤولية بلد كامل. فيما خطابه ولغته ومشروعه، والأهم عقله، كل مافيه لا يزال مرتبطاً بنطاق بلدة أو مدينة أو حتى عاصمة. الديماغوجيا في اللغة. المحلية في التصور. وخصوصاً القصور في فهم التموضعات الخارجية إقليمية أو دولية.
غرق اردوغان في لعبته "البلدية" فأغرق بلده في لعبة المنطقة والإقليم. وبمنطق الريس البلدي، ظل يرمي أثقال سياساته الخارجية على الداخل. يتعثر في سوريا، فيهاجم معارضيه، حتى استخدام الوتر المذهبي المستغرب والمستهجن في تركيا أتاتورك. يسقط مشروعه الإخواني في الشرق الأوسط، فينقضّ على الإعلام والصحافة وحتى على الجيش. يدخل في سلسلة عداء دولي من واشنطن إلى موسكو، فيحوّل حصاره الخارجي لعبة كسر مجتمعي بين الريف التركي وثلاثية المدن التركية الكبرى، اسطنبول وأنقره وإزمير. ليستقوي بالفقراء على الأثرياء. ويحرض الريفيين على المدينيين. على قاعدة أن معوزي الأرياف لا يهتمون بالسياسة الخارجية. فيما مثقفو المدن عاجزون عن مواجهة صناديق اقتراع الريفيين. تماماً، بالمناسبة، كما حصل مع جونسون في استفتاء بريطانيا. من دون أن يعير رئيس البلدية انتباهاً، إلى أنه في سياسته تلك، يراكم فوق مأزقه الخارجي، كسراً في العظم المجتمعي الداخلي. فيكون كمن يهرب من هزيمة خارجية إلى فتنة داخلية. أو هو أسلوب التنصل في مواجهة الخارج بما يشبه حرباً أهلية في الداخل. المهم شد العصب وتحريض الشارع والاستمرار في لعبة ركوب دراجة الدولاب الواحد، المهم عدم السقوط بأي ثمن كان. والأثمان الجاهزة في أذهان هذا النمط من الحكام، تؤمنها استراتيجية الحاجة المستدامة إلى أعداء، فعليين أو وهميين. كي يظل الديكتاتور حاكماً ومعارضاً في الوقت نفسه. حتى يقفل باب التناوب الديمقراطي على السلطة، لا في صندوق الاقتراع وحسب، بل أولاً وأصلاً، في أذهان شعبه وشعبويته.
قبل أسابيع بدا وكأن إردوغان قد استنفد كل تلك الألاعيب والأساليب. أحرق كل أوراق ديماغوجيته. حتى وجد نفسه أمام الحائط المسدود. من هذا الحائط ارتدّ مرتطماً بكل الجدران العالية التي شيّدها بنزقه في المجال الخارجي للسياسة التركية طيلة أعوام. اعتذار من روسيا. اعتذار مغلّف من اسرائيل. اعتذار مخفّف من الولايات المتحدة. وقيل إن التتويج كان باعتذار "مهوتف" من سوريا نفسها. رواية الاتصال الهاتفي بالرئيس السوري بشار الأسد يؤكدها أكثر من مصدر دبلوماسي. بعد خمسة أعوام من الحرب الإردوغانية الشرسة على دمشق. وليست مصادفة أن تأتي تسريبة الخبر من السعودية. ففي ذلك استكمال لآخر الصراعات التي خلقها السلطان الجديد، مستعيداً مئتي عام من الحروب الشرسة بين اسطنبول والثنائية السعودية – الوهابية. ارتداد ارتطامي لم ينقذ إردوغان حتى اللحظة من ثلاثية مشاكله "البلدية" الأساسية: مشكلته مع الإرهاب الداعشي الذي ولد وترعرع في بيئته السياسية. ومشكلته مع الكرد الذين لعب معهم وحاول التلاعب بهم طيلة أعوام. ومشكلته مع تركيا الأتاتوركية التي كسرها محاولاً تشييد سواها. فأفاق على اندثار الأولى وبناء اللادولة أو اللاشيء.
منذ أعوام قيل وكتب أن تورط إردوغان في الحرب السورية سيشكل مماثلة مطابقة لتورط باكستان في الحروب الأفغانية. اليوم يبدو أن هاجس إردوغان هو بيع كل أوراقه الخارجية مقابل ألا يلاقي مصير برويز مشرف، الذي لاذ بالفرار ذات يوم من قاعة محكمة في إسلام أباد. آخر المصادفات أن تسمية الإسلام حاضرة في المدينتين، في عاصمة باكستان كما في إسطنبول، وهو الإسلام الذي حاول الحاكمان التلاعب به، أو الحكم باسمه.