شخصياً، لا أريد فضيحة مدوية. أنا رجل بدائي تهمّني سمعتي أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم. ليست لدي طموحات في الحياة. ولا أروم مالاً ولا شهرة. لا كرسياً ولا مجداً. لا زعامة ولا تصفيقاً. وحتى الشعر فهو الذي اختارني بمحض إرادته ومشيت وراءه منقاداً وصامتاً كما تمشي الخادمة البئيسة وراء سيدتها المتعجرفة في الأسواق. وكم حاولت ألا أكون شاعراً ونأيت بنفسي بعيداً في شعاب وعرة وحفرت بسُعالي في سقوف بيوت غريبة. وفي أحسن الأحوال، عدت ليلاً بخطوات كسيحة ووسواسٍ في الرأس، وشرعت أفتش البيت ركناً ركناً. من قال لي إن أحدهم يختبئ تحت السرير أو في الحمام أو يحبس أنفاسه الشريرة في برميل الطحين. وينتظرني ليهوي علي بفأس قصير.
وحتى في هذه الحالة، كنت مع القصيدة كحال الأم الطائشة التي تخلصت من مولودها في مصحة بعيدة، وحتى اذا مرت السنوات الطوال ومات أغلب أفراد عائلتها المتصلبين، وجاء الى الحياة آخرون بعيون متسامحة، أخذ الحنين يلكز الأم بإصبعه الطويل، فخرجت تبحث عن ولدها الذي كبر ونبت زغب خفيف في وجهه وأصبح يفكر جدياً في التدخين.
أريد أن أواصل حياتي هكذا مجهولاً مثل بيت شحاذ، وغامضاً مثل رمانة بحبات حمراء. خاملاً كإبريق شاي صدئ. ومتروكاً ككرسي في مدخل فندق مهجور. لا أريد أعداءً، أما الأصدقاء فما عاد يهمني إن هم أكلوا الموز ورموا بقشوره تحت قدميّ. فباطن حذائي ليس ممسوحاً الى الحد الذي سأسقط فيه برعونة ويسيل دم كثير من فمي وتتطاير أزرار قميصي. وينكل بمظهري ثلاثة أو أربعة شبان بدو جالسين في المقهى المقابل.
أحب الحياة وأحرك رأسها المستطيل في فناجين كثيرة. وأحرص على أعضائي بالموسيقى وملاعق العسل... لا أريد أن أموت سريعاً ويأتي من يحملني على كتفيه، ويحشرني في حفرة مظلمة لتنمو فوقي أعشاب غريبة، قبل أن يعود ورائي ليضاجع زوجتي السمينة (طبعاً إن هي أرادت ذلك)، ويبيع قمصاني الملونة في سوق الخردة المجاور. وتصلني في النهاية كل هذه الأخبار السيئة من السكارى الذين سيشربون نخبهم الطويل جواري كلما لاذوا ليلاً بالمقبرة وسكانها الطيبين.
ولا أريد حتى أن أفقد بصري وأقضي بقية العمر مجروراً في الأزقة كوديعة، وألبس الجوارب بالمقلوب وأتبول على أطراف سروالي كأي معتوه، وأتشمم عطراً فصيحاً حولي من دون أن أتبين ملامح ذوات العطر. وستكون المرايا هي عقدتي الكبيرة كلما وقفت أمامها وسمعت ظلاماً يصفِّر في عيوني. هل الظلام يرسل صفيراً. لا أدري. وسأفكر أن أكسر المرايا بعصا صلبة سيجلبها لي أحدهم من غابة بعيدة. العصا التي ستذكرني على مدار الأيام بحمار أشقر ينحدر الى أسفل الوادي محاولاً أن يخلّص ظهره من طفل شقي، وأبقارٍ مربوطة الأرجل وخرفان صامتة وروث البهائم الجاف. وسأكون مجبراً، أيضاً، أن أدفع بعض المال الى أحد الصغار ليجرّني الى المقهى في الصباح. ولا بد أن أصادف منهم الأشقياء الذين سينهرونني بقوة كلما تمايلت بجثتي نحو الموت... السيارات أقصد. وطويلاً سأتذكر أبا العلاء المعري وعبد الله البردوني. أما بورخيس فلا أظن ذلك.
أنزعج من القراصنة وقبعاتهم الغامقة مثلما أنزعج كلما انفلق ضوء كاميرا حول رأسي. أو رنّ هاتف ذكي في محفظة تلميذة مدللة، حيث تتغير ملامحي وأتخيل نفسي أدافع عن تهمة كبيرة أمام قاض مبتدئ وذميم يمكن ألا تروقه ملامحي أو طريقة جوابي المستفزة، ويرسلني الى السجن لألتهم العدس مع اللصوص والمهربين وسجناء القضايا الخاسرة. وربما تركت لحيتي تنسدل الى الأسفل، وبدأت في حفظ القرآن. وحتى اذ خرجت من السجن، هل بمقدوري أن أعود الى أوراش البناء لأمزج الإسمنت بالرمل وأشتم أحدهم كل أسبوع أو أسبوعين، وأطلب منه أن يسامحني في المساء. طبعاً ستنمو بيوت وعمارات كثيرة، وتأتي نساء غريبات ليحركن السكاكين والأشواك في المطبخ، ويرتبن أصص الورد في الشرفات التي سيجلس فيها موظفون متجهمون ببذلات رياضية واسعة، وستضطر الشمس، من حين لآخر، أن تسحب إزارها الأصفر برفق خلف غيوم حنونة، فيما سأضطر بدوري أن أتنقل من تعب لآخر حاملاً ملابس العمل العطنة فوق دراجة هوائية عنقها طويل كغزالة برية.
وهل بمقدوري أن أعيش من الكتابة. وماذا اذا تأخروا في صرف المستحقات، أو جف البترول في دول الخليج، وتوقفت فيها المجلات عن الصدور. حتماً سيتسرب يأس لذيذ الى أعماقي وسأقضي وقتاً لا بأس به ساهماً في المقهى. وربما جلس أحد الفضوليين جواري وأخذ يتفرسني بعينين مشبعتين بنعاس الظهيرة والكسل الوجودي، وربما تضايقت وغادرت المقهى لتدهسني سيارة طائشة وأموت على بعد مترين من الوصول للمستشفى في سيارة إسعاف سائقها يمضغ علكاً ويبتسم للأشباح. وقد يكتب أحدهم عن وفاتي في صفحة داخلية لجريدة غير مقروءة بالمرة، بينما الحياة ستواصل الركض بشكل رتيب كبقال يغلق دكانه ليلاً، ويعود في الصباح ليفتحه ويبيع الحليب وقضبان الخبز ويتفوه وقت الظهيرة.
أيها القراصنة الأجلاف، وأيتها التلميذات ذوات الأقراط الرقيقة وحقائب الظهر الملغزة... اسحبوا أصابعكم المسمومة جانباً لأمر فوق الجسر القصير، ولا تتركوا أفكاري تحلق في سماوات بعيدة، فقد تسقط في أحد البيوت، ويصادف ذلك أن تكون إحداهن جالسة أمام فرن، وحتماً ستجرها بقضيب حديدي الى ألسنة النار الغاضبة لتحترق. ففي نهاية المطاف أنا مجرد مواطن يستهلك الكثير من القهوة الممزوجة بقليل من المرارة. ولا أتمنى أن تكون هذه المرارة في فم أي أحد منكم جميعاً.
* كاتب وشاعر مغربي