ماذا سيفعل مجلس الوزراء اليوم؟ سيستمع إلى تقارير القوى الأمنية والعسكرية، ثم يطلب إلى الهيئة العليا للإغاثة صرف تعويضات لعائلات الشهداء، ثم ينصرف إلى لملمة فضائحه المفتوحة. أما الأجهزة الأمنية، فبعضها يهتم بإزالة آخر آثار جريمة الإنترنت غير الشرعي، فيما يتابع قائد الجيش البورصة الرئاسية. والذين رسموا أمام الأخير سابقاً خطاً أحمر للحؤول دون خوضه معركة لم يضغط هو أصلاً لخوضها، يُكثرون اليوم من البيانات، كما لو أنهم يتحدّثون عن بلدة في القطب الشمالي، لا عن بلدة لبنانية، أراد الإرهابيون احتلالها أمس، بعدما احتلوا سابقاً جرود جارتيها عرسال وراس بعلبك. يُكثرون من الثرثرة كغربان فوق المقبرة، من دون أن يجرؤوا على مصارحة الناس، والقول لهم إن حكام واشنطن والرياض أصدروا أوامر بالإبقاء على الجرود تحت الاحتلال.في لحظة الحقيقة، لا يتصدى للأمر سوى من بيده الأمر. ولم يعد لنا سوى انتظار المقاومة، لتردّ الجميل لأهل القاع الذين حموا بأجسادهم المنطقة كلها. نقولها بوضوح: فلتقم المقاومة بتنظيف كل المنطقة من إرهابيي داعش وداعميهم. نُدرك أن قدرات حزب الله البشرية والمادية لا تسمح له بخوض كل معارك الدفاع عن لبنان والمشرق في آن واحد، لكن في مثل هذه الأيام الصعبة، لا يمكن الاختباء خلف الإصبع، ولا الركون إلى تصريحات الفاشلين من حاضني الإرهابيين، الذين ينتقدون سلاح المقاومة، فيما هم يعتقدون أن القاع وقرى لبنان يمكن حمايتها بقوة السفيرين السعودي والأميركي في بيروت.
لا أحد من أهل البقاع والمناطق المهددة، إلا ويشعر بثقة كبيرة، بأن المقاومة، وحتى تستقيم أحوال الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، هي ملاذنا في هذه الأزمة.
والقرارات التي اتخذتها قيادة المقاومة في البقاع الشمالي ليل أمس توحي بأن أمراً ما يجري الإعداد لتنفيذه، يتعدى الإجراءات الاحترازية. ومثلما تمثّل حلب اليوم مفتاح المعركة في وجه أسياد من أرسل الانتحاريين أمس، فإن معركة تحرير جرود القاع وبقية السلسلة الشرقية باتت أولوية. القاع تسابق حلب. وبعد جرائم أمس، ربما وجب القول، ولو من باب التمني، إن القاع قبل حلب.



عامان على «غزوة» عرسال في 2 آب 2014، ويتكرّر المشهد في بلدة القاع الحدودية. اليوم الدامي أمس، قطع الشكّ باليقين، وأكّد معطيات الأجهزة الأمنية اللبنانية، بأن قرار تنظيم «داعش» الإرهابي هو تحويل الأنظار إلى لبنان، باستهداف كل لبنان، في ظلّ الضغط الميداني والعسكري والأمني والمالي الذي يتعرّض له التنظيم في ساحات سوريا والعراق وليبيا.

ومع أن غالبية السياسيين اللبنانيين وسفراء الدول الكبرى، يردّدون هنا وهناك أن «المظلّة الدولية» تحمي لبنان، إلّا أن سياق الأحداث الأمنية، من التفجير أمام بنك لبنان والمهجر، والخلايا الإرهابية التي تتساقط يوميّاً، وصولاً إلى «غزوة القاع» أمس، تشير إلى أن مرحلة جديدة من عمر البلاد، قد بدأ فعلاً، وأن فصلاً دموياً جديداً سيحدد معالم المرحلة المقبلة سياسياً وأمنياً في الكيان الصغير، وسط المحيط المفكّك والمتفجّر.
الموجة الثانية من
الهجوم حسمت أن بلدة القاع هي المستهدفة

تفاصيل الاعتداءات الإرهابية

حوالى الساعة الثانية والنصف من فجر يوم الأحد، لاحظ المواطن شادي مقلّد حركة لأربعة مجهولين قرب منزله الواقع على أطراف بلدة القاع الحدودية. ارتاب مقلّد، وحاول الاستفسار من الأشخاص عن هويتهم ووجهتهم، قبل أن يسمع منهم جواباً أنهم من «مخابرات الجيش». لم يقتنع مقلّد، واتصل بنقطة المخابرات القريبة، التي أكّدت له أنه لا «دوريات لنا في المنطقة»، فما كان من مقلّد إلّا أن أطلق النار من بندقيته في اتجاه الإرهابيين، ثمّ رمى قنبلة يدوية (لم تنفجر، فجّرها الجيش لاحقاً). وعلى إثر إطلاق النار، عمد أحد الانتحاريين إلى تفجير نفسه قرب سياج المنزل، وفي غضون 5 إلى 7 دقائق، وصلت دورية استخبارات الجيش لتلتقي ببعض الأهالي الذين حضروا على إثر سماع التفجير الأول، فما كان من الانتحاري الثاني إلّا أن فجّر نفسه قرب الدورية، فأصيب ثلاثة عناصر بجراح. وتزامن التفجير الثاني مع انطلاق سيارة الإسعاف من مستوصف كنيسة البلدة وتجمّع عدد أكبر من الأهالي، فما كان من الانتحاري الثالث إلّا أن فجّر نفسه قرب الإسعاف، وتبعه الانتحاري الرابع، فرست حصيلة الاعتداءات الإرهابية على استشهاد كل من ماجد وهبي، فيصل عاد، جوزيف ليوس وبولس مطر (سائق سيارة الإسعاف) وجورج كلاس، بالإضافة إلى 12 جريحاً، بينهم ثلاثة عناصر من المخابرات.
مع ساعات بعد الظهر، لم تكن معالم العملية الإرهابية قد اتضحت بعد، وتضاربت التحليلات والمعطيات، خصوصاً أن أكثر من مصدر أمني رفيع المستوى تحدّث عن أن الهدف ليس القاع، بل إحدى مناطق البقاع الحاضنة لحزب الله، وأن الانتحاريين كانوا إمّا بانتظار أحد المتعاونين لنقلهم خارج البلدة أو سرقة إحدى السيارات وتنفيذ الاعتداء في الهرمل أو إحدى قرى البقاع الشمالي، أو حتى الوصول إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، لكنّ انكشافهم حال دون ذلك. وكان حزب الله قد اتخذ في الأسبوع الماضي سلسلة إجراءات أمنية وقائية، لحماية المناطق التي من الممكن أن تكون هدفاً للعمليات الارهابية، بناءً على معطيات أمنية عن نيّة الإرهابيين تنفيذ اعتداءات. أمّا الفرضية الثانية، فانتظار إحدى آليات أو باصات الجيش اللبناني والقوى الأمنية لاستهدافها أوّلاً، وانتظار تجمّع القوى الأمنية والأهالي، ثمّ مهاجمة المحتشدين من جديد.
غير أن الموجة الثانية من الهجوم، حسمت أن بلدة القاع هي المستهدفة، بحسب ما أكّد مرجع أمني لـ«الأخبار». فعند حوالى الساعة العاشرة والربع من ليل أمس، وأثناء تجمّع عدد من المواطنين أمام كنيسة البلدة للتضامن من ضحايا الاعتداء الإرهابي وحماية البلدة، أقدم إرهابيان يستقلان دراجة نارية على رمي قنبلة باتجاه المحتشدين، قبل أن يقوم أحدهم تالياً بتفجير نفسه قرب مبنى بلدية القاع، وعمد ثالث إلى محاولة الهجوم على ملالة للجيش اللبناني، لكنه قُتل بنيران الجنود ونيران بعض الأهالي الذين حملوا السلاح. وفيما تضاربت المعلومات عن وجود أربعة انتحاريين بينهم امرأة، إلّا أن شهود عيان أكّدوا لـ«الأخبار» وجود أشلاء لثلاث جثث فقط. ولم يسقط في الاعتداء الليلي أي شهيد، لتقتصر الحصيلة على 8 جرحى، أحدهم حالته حرجة.

الطريق إلى البحر تمرّ عبر القاع
تحركات للمسلحين في الجرود بالتزامن مع تحرّكات على جبهة سرغايا ــ الزبداني

حتى ساعة متأخرة من ليل أمس، لم تكن الأجهزة الأمنية قد حسمت بعد طبيعة الجرائم الإرهابية التي وقعت في القاع، والهدف من ورائها. إلّا أن أكثر من مصدر سياسي وأمني رسم لـ«الأخبار» السياق الذي تقع فيه الاعتداءات. فعلى الرغم من الإجراءات الأمنية المشدّدة التي يتخذها الجيش اللبناني في محيط بلدة القاع، ومواقعه المتقدّمة والمزوّدة بأبراج المراقبة التي بناها البريطانيون على طول الحدود على سلسلة الجرود الشرقية، بدءاً بعرسال ومروراً براس بعلبك، إلّا أن بلدة القاع ومشاريعها المحاذية، تبدو الخاصرة الأضعف لعمليات التسلل والاختراق، نظراً إلى وعورتها وطولها وعدم قدرة الجيش على ضبط كامل الحدود. ويخوض الجيش منذ أشهر حرباً «صامتة» ضد المسلّحين باستهداف مواقعهم إمّا بالمدفعية وإمّا بالطائرات الموجّهة من دون طيّار، بالتزامن مع استهداف رجال المقاومة لتحركات الإرهابيين في الجرود بشكل دائم. لكنّ الاستهدافات لم تقض نهائياً على حركة الإرهابيين وتنقّلهم بين جرود الجراجير وقارة، وصولاً إلى جرود القاع، خصوصاً أنه جرت عدّة محاولات في السابق لإعادة الهجوم على بلدة جوسيه والجرود المحيطة بها في جنوب القصير، مع استحالة القضاء نهائياً على خطوط التهريب التي يعتمدها الإرهابيون من البادية إلى جرود الحسية، المطلّة على القصير، ولا سيما أنه كان هناك معطيات لدى استخبارات الجيش تفيد بأنّ هناك عملية أمنية يُعدّ لها «داعش» في القاع من جهة، وجرود نحلة من جهة أخرى. وفي الأيام الماضية، لوحظت تحركات للمسلحين في الجرود، بالتوازي مع تحرّكات على جبهة سرغايا ــ الزبداني، وهو ما عدّته مصادر متابعة محاولة لإشغال قوات الجيش السوري وحزب الله عن معركة حلب. ولا يمكن الفصل بين المخطط الذي تحدّث عنه قائد الجيش العماد جان قهوجي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبل سنتين، عن نيّة تنظيم «داعش» فتح ثغرة من البادية باتجاه الشمال اللبناني، للوصول إلى منفذ بحري. وجغرافياً، لا يمكن هذه الثغرة سوى أن تمرّ عبر بلدة القاع، ومنها إلى أطراف منطقة عكّار. ويستحضر هجوم أمس الاستهداف الذي تعرّص له الجيش اللبناني قبل نحو ثلاثة أشهر، باستهداف أحد أبراج المراقبة في بلدة حنيدر العكارية، والذي بقيت تفاصيله غامضة.


هذا في الميدان، أمّا في السياسة، فتشير المصادر إلى أن الاعتداءات الإرهابية، تفتح الباب واسعاً أمام النقاش الذي استعر في الآونة الأخيرة حول مستقبل النزوح السوري في لبنان، وخصوصاً أن حالة القلق من الإرهاب بدأت تصوّب نحو وجود مخيّمات عشوائية للنازحين السوريين في مختلف المناطق اللبنانية، واحتمالات ردود الفعل الانتقامية تجاه النازحين. والجدل في ملفّ النازحين يطرح الأسئلة عن الحلول الممكنة لأزمة النزوح، واقتراحات إقامة مخيّمات «مضبوطة»، ما يعني تنفيذ الإرادة الدولية بوجوب إقامة مناطق تجمّع للنازحين ومساكن مسبقة الصنع، توصل مستقبلاً إلى احتمالات التوطين، أو الإقامة شبه المستديمة التي بدأ يضغط باتجاهها ما يُسمّى «المجتمع الدولي». وتضمّ مخيمات القاع (نحو أربعة مخيّمات) أكثر من 27 ألف نازح سوري مهجّر، غالبيتهم من مدينة القصير وقرى ريفها. ولا يمكن عزل استهداف القاع عن السعي إلى خلق مناخ سلبي لدى اللبنانيين تجاه الوجود السوري، ما يفتح الباب أمام دعوات التسليح الذاتي في القرى وعزل النازحين، وخصوصاً أن الحلول الجذرية لأزمة النزوح غير متوافرة الآن، وربّما لأجل غير مسمّى.




«جعجع» للتنبؤات الأمنية

في السنوات الماضية، بنى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، خطابه على التقليل من خطر المجموعات الإرهابية، ووصل به الأمر مراراً إلى الدفاع عنها، وتحميل حزب الله مسؤولية اعتداءاتها في الداخل اللبناني، بحجّة قتاله في سوريا. ومع ازدياد الأخطار من السلسلة الشرقية، مارس جعجع والقواتيون في قرى البقاع الشمالي وبلداته، خصوصاً في القاع وراس بعلبك ضغوطاً على أبناء البلدات الذين حملوا السلاح لمساعدة الجيش في الدفاع عن قراهم، في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي وسرايا المقاومة، لدفعهم إلى ترك السلاح. ومع أن جعجع طالب مرّة يتيمة بتشكيل لواء من الأهالي لدعم الجيش في القرى الحدودية، إلّا أن القوات خاضت الانتخابات البلدية الأخيرة في راس بعلبك والقاع ضد مرشحي سرايا المقاومة والقوميين، بحجّة أنهم «يحملون السلاح ويعرّضون البلدات للخطر». وتدخّل جعجع شخصياً لإسقاط رفعت نصرالله، مسؤول السرايا في راس بعلبك. لكن سرعان ما احتلّ القواتيون الشاشات أمس، بعد أن أدلى جعجع بتصريحات طمأن فيها أهالي القاع إلى أنهم «غير مستهدفين»، قبل أن يتراجع عن تصريحاته ليلاً. ومع انتشار صورٍ للنائب أنطوان زهرا حاملاً بندقية وسط عددٍ من المواطنين المسلحين في القاع، يتبيّن أن مشكلة جعجع ليست في حمل السلاح، بل في من يحمل السلاح، ووجهة هذا السلاح!