أحس بوريس جونسون، المخلوق السياسي المحض، والمؤرخ الذكي (الشهير في بريطانيا بـ«بوريس» فقط إذ أنه يتمتع بشهرة المغنيات الشعبيات اللواتي لا يحتجن إلى كنية)، بأن ريح الشعبوية البريطانية تميل بإتجاه التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، فاختار لحظته وانقلب على رفيق دراسته، ديفيد كاميرون، وكاد أن يشق حزب المحافظين الحاكم، ليتولى القيادة الرمزية لمعسكر الداعين إلى التصويت على «الخروج». وربما تعبير «بريكست» نفسه كان نتاج بهلوانياته اللغوية التي اشتهر بها منذ احترف الصحافة فور تخرجه من جامعة «أكسفورد».بنى «بوريس» سمعته كسياسي من خلال انتخابه نائباً عن مناطق يسيطر عليها حزب المحافظين تقليدياً، لكن نجمه لمع إثر فوزه المحكم لمرتين بمنصب رئيس بلدية لندن، كاسراً بذلك سيطرة حزب العمال على المنصب. وقد ترك «بوريس» تأثيرات «شكليّة» مهمة على صورة المدينة: غيّر شكل الباص اللندني الأحمر المشهور، وألغى صناديق الهاتف القديمة التقليدية من الشوارع، وأطلق أوسع شبكة للتنقل بالدراجات الهوائية في المدينة (كان يقود دراجته إلى مقر عمله يومياً)، ومنع تناول الكحوليات في وسائل النقل العامة. لكن منتقديه يقولون إنه لم يفعل شيئاً ذا قيمة لتحسين حياة سكان المدينة، التي أصبحت خارج قدرة المواطنين العاديين على الإنفاق. مع ذلك، فهو كان يعرف دوماً كيف يبني شعبيته، وفي الأولمبياد الذي نظمته لندن في عهده، هتف الجمهور «بوريس ...بوريس» فيما جلس كاميرون بجانبه وكأنه لا أحد.
يعلم «بوريس» أن حياته السياسية تعتمد أساساً على الثقافة الشعبوية الصاعدة التي أنتجتها منظومة «الصورة» الأميركية خلال الخمسين سنة الأخيرة، والتي تقوم على التلقائية والعاطفة وضيق الأفق والإيجاز المخل وانعدام المنطق في تكوين الأحكام، ولذا فهو كان دائماً في حياته كصحافي وكمؤرخ، وأيضاً كسياسي، متنبهاً للغاية للعب الدور المناسب في المجال العام. ويبدو أنه نجح في ذلك، إذ كيف تُفسَر شعبيته الجارفة بالرغم من أنه طرد عدّة مرات من الصحف التي كان يعمل بها وحتى من حزب المحافظين بسبب كذبه باستمرار، وبسبب استعداده الدائم لقول ما يرغب الآخرون في سماعه؟
يمثّل الآن رمز الشوفينية الإنكليزية والإنعزال

«بوريس» اليوم لن يقبل بمنصب أقل من رئيس الوزراء، وهو في ظل المعادلة الحالية في البرلمان يمتلك أفضل الحظوظ. فقط وزيرة الداخلية، تيرزا ماي، يمكنها أن تحظى بثقة الجمهور أكثر منه، لكنها وحتى الآن لم تخط بإتجاه واضح لقطف ثمرة سقوط كاميرون المدوي. يقول البعض إن «بوريس» سيتسغل فوضى «بريكست» للوصول إلى المنصب الأهم في المملكة المتحدة، لكنه فور تربعه على الكرسي سيلجأ إلى ألف لعبة سياسية لنقض نتيجة الإستفتاء الذي قضى بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وإنّ كاتبة سيرته، سارة بورنيل، متيقنة تمام اليقين من أنه يؤمن بشدّة في داخله بأهمية الاتحاد الأوروبي، وتذكرنا بأن الصحافي الأشقر الذي كتب مقالة شديدة القسوة ضد الاتحاد الاوروبي أيام عمله كمراسل لـ«الديلي تليغراف» من بروكسل التي تجاوز فيها كل الحدود ولوى عنق الحقيقة، كان في مجالسه الخاصة يتحدث بتعاطف مع فكرة الاتحاد.
«بوريس»، الذي يمثّل الآن رمز الشوفينية الإنكليزية والإنعزال، ينحدر من أصول تركية وكان أحد أجداده وزير داخلية لفترة وجيزة في خدمة السلطان العثماني، كما ويحمل دماء فرنسية وألمانية. من المتداول عنه أنه ولد في نيويورك في الولايات المتحدة، ولذا فهو رشّح نفسه مازحاً لرئاسة الولايات المتحدة بوصفه كان يحمل الجنسية الأميركية بالولادة قبل أن يتخلى عنها في ٢٠٠٦ لتجنب الملاحقات الضرائبية.
يتهمه السياسيون الذين عملوا معه بأن ذاته متضخمة وشديدة الطموح، وبأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة أو الآخرين. في كتابه عن ونستون تشرشل (قدوته الشخصية) هناك إحدى وثلاثون إشارة في مقدمة الكتاب عن شخصية أخرى غير تشرشل، وهي «بوريس جونسون». مع ذلك، فإن صورته العامة هي أقرب لنجم تلفزيوني محبوب، شديد التلقائية والمرح، يحسن التحدث ويستخدم لغة لا يقدر عليها السياسيون الآخرون، حتى قيل إن منطق معسكر الداعين للخروج من الاتحاد كان أفضل من منطق الطرف الآخر نظراً لإمتلاك «بوريس» لغة قوية وحضور لافت مقارنةً بكاميرون الباهت والسطحي.
لا يمكن تجنب المقارنة مع دونالد ترامب، ليس بسبب التشابه الغريب في لون وشكل تسريحة الشعر فحسب، بل لكونهما من ذات الطينة السياسية القائمة على مخاطبة الغرائز الشعبوية، وأنهما يتحدثان بنفس منطق التخويف من الآخر، ولديهما الحركات التلفزيونية التهريجية نفسها، ويعدون بحلول اقتصادية سحرية. لكن سنوات الخبرة السياسية لـ«بوريس» وثقافته التاريخية تجعله أكثر خطراً من نظيره على الجانب الآخر من الأطلسي.
لم يعد الأمر مزاحاً، فمكاتب المراهنات في بريطانيا تقول إن هذا الرجل الأشقر الجامح هو صاحب الفرصة الأكبر لتولي المنصب الأرفع في السلطة التنفيذية البريطانية. فإذا لم تحبوا فكرة دونالد ترامب في البيت الأبيض، إنتظروا لتروا «بوريس» في ١٠ داوننيغ ستريت. إنها أيام سود.