شهيرة معادلة فارس سعيد الدالّة على المأساة بما يشبه الملهاة. أنه فيما الشرق الأوسط يتمخّض بين تكفير وتفكير، سعياً واعياً أو غير واع إلى إعادة توليد ذاته منطقة ودولاً وشعوباً ونظاماً إقليمياً، يغرق مسيحيو لبنان أنفسهم بين قضية ردم الحوض الرابع وأزمة زحمة السير في نزلة صربا! يوم أطلق منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار تلك النبوءة، لم يكن يتوقع قط أن يأتي يوم ليضيف إليها استقالة أعرق حزب مسيحي من الحكومة احتجاجاً على ملف مكب نفايات.طبعاً ليست المرة الأولى التي يواجه حزب الوجدان المسيحي سلطة ما بورقة الاستقالة. قبل اليوم رفع جورج سعادة، من الموقع نفسه، الوسيلة ذاتها. كان ذلك في حكومة رشيد الصلح سنة 1992. يومها استقال رئيس حزب الكتائب بعدما تأكد من حتمية الذهاب إلى انتخابات نيابية. استحقاق اعتبره المسيحيون، بشبه إجماع، انقلاباً على وثيقة الوفاق الوطني وضربة بنيوية عميقة تمهّد لتمدد نظام الوصاية من الأرض إلى المؤسسات وصولاً إلى الناس لاحقاً عبر تجنيس العام 1994. كانت قضية نائب البترون كبيرة. وقد لاقاه فيها يومها كل رفاقه. أمين الجميل جاء من منفاه الطوعي في زيارة خاطفة لتأييد الاستقالة. كل القوى المسيحية كانت متطابقة في الموقف. وبكركي نفسها شكّلت مظلة الخطوة. كانت القضية وطنية كبرى. بمعزل عن حساباتها وصواب ما أعقبها وتواطؤ الخارج بعدها... يظل ثابتاً أن رئيس الكتائب يومها استقال في سياق تعبير حزبه عن وجدان شعب.
قبل سعادة وقف بيار الجميل المؤسس وقفة مماثلة زمن الثورة المضادة سنة 1958. يومها كانت ميني الحرب الأهلية قد انتهت إلى نفاق سياسي آخر، كالذي اعتاد أن يحكم لبنان منذ نشاته: لا غالب ولا مغلوب في القول. وغالب ومغلوب في الفعل. تشكّلت حكومة العهد الشهابي الأولى على هذه القاعدة. فانتفض فتى الكتائب وأطلق ما سمي الثورة المضادة. أسقط الحكومة وفرض إعادة تشكيلها بميثاقية أكبر وانتصارية حربية أقل... اليوم يستقيل الحزب نفسه، اعتراضاً ربما على مسار كامل. لكن عنوان الاستقالة سيظل مطمر زبالة، بكل ملحقاته من فساد وزبائنية.
صدقاً، ليس هذا الكلام تشفياً ولا شماتة ولا حتى انتقاداً للاستقالة ولا لأصحابها. ولا هو طبعاً تحميل للمسؤولية لرئيس الحزب العصامي العائلي الشاب. إنه مجرد توصيف لحالة جماعة كاملة، اسمها مسيحيو لبنان. جماعة انتقلت، تحت ضغط ظروف موضوعية قاهرة، كما بدفع ظروف ذاتية فاضحة، من موقع المبادرة إلى موقع المهاترة. جماعة كاملة لا يبدو انها تملك مشروعاً ولا خطاباً ولا حتى بوادر لهما أو ملامح أو مجرد بذور.
يكفي استعراض الاستراتيجيات الظاهرة أو الكامنة لمختلف الجماعات اللبنانية، من أجل تكبير الصورة المأساوية وبالتالي رؤيتها في دقائقها وحقائقها. السنية السياسية، رغم كل الكلام عن انهيارات زعامتها وخلافات قيادتها وخسائر خياراتها ومآزق تموضعاتها... رغم ذلك كله، تظل صاحبة رؤية واضحة في السياسة. فهي خارجياً مرتبطة عضوياً بمحور إقليمي دولي. يشكل عمقها الاستراتيجي وبعدها الحيوي وحتى مرجعية كل خطوة وموقف. أما في الداخل، ورغم كل ما حفلت به دزينة أعوام السيادة الماضية، لا تزال الاستراتيجية اللبنانية للسنية السياسية تقوم على عنوان واحد واضح: إنه طائف الوصاية. لا بالمعنى الاتهامي أو التخويني إطلاقاً. بل بمعنى التمسك بالمعادلات التي أرساها نظام الوصاية على صعيد النظام السياسي الذي انبثق في ظله من وثيقة الوفاق الوطني. أي التمسك بصيغة تطبيقية للطائف تضمن وتؤمن معادلة الأرجحية السنية السياسية في السلطة. وهي معادلة تكرّست خلال دزينة أعوام السيادة بشكل جلي في ثلاثة عناوين عدة بارزة وثابتة: طريقة اختيار رئيس للجمهورية. فلسفة قانون الانتخابات النيابية. شطب مسألة اللامركزية الإدارية من أجندة الطائف رغم كونها عاملاً جوهرياً في تركيبته الميثاقية. وأخيراً حيازة القرار الفعلي في مفاصل الإدارة العامة للدولة.
الشيعية السياسية، من جهتها، لا تقل وضوحاً في الرؤية والمشروع والخطاب. خارجياً اصطفاف يبلغ حد الشراكة الندّية ضمن محور إقليمي دولي مقابل. مع العمق ذاته كما البعد والمرجعيات الفكرية والعقائدية والسياسية. أما داخلياً، فمراكمة على ثابتة المقاومة، وخيار نهائية الكيان، في شكل دقيق متوازن، حتى تنضج ظروف موضوعية طبيعية وإجماعية لتكريس صيغة أخرى أكثر عدالة ربما، لمعادلة المناصفة...
الدرزية السياسية، وبعد أعوام الحلم في السبعينيات وأعوام المغامرة مطلع العقد الماضي، عرفت كيف تعود إلى واقعيتها بالحد الأدنى من الأثمان والخسائر. أدركت واقع انقطاعها عن أي بعد خارجي جدي، فانكفأت إلى حدود الحفاظ على آخر معاقل الوجود الداخلي. صارت استراتيجيتها مقتصرة على قانون الانتخاب، وما يمكن أن ينتج عنه من مقتضيات في النظام حكومة وإدارة. حاول وليد جنبلاط أن يسدي آخر النصائح وأن يطلق آخر المبادرات. لكنه قوبل بصد القلاع المنغلقة على ذاتها، فدخل قلعته واستراح.
لم يبق غير المسيحيين. أي استراتيجية تشغلهم اليوم، بمعظم قياداتهم وغالبية أحزابهم وما تبقّى من مرجعياتهم، باستثناء الاستقالة؟!