من المُفارقات التي نقلها أحد السياسيين عن الأمين العام لتيار المُستقبل أحمد الحريري، عشيّة الإنتخابات البلدية في طرابلس، جوابه على سؤال طُرح عليه حول «حُظوظ اللواء أشرف ريفي في خرق لائحة التحالف». قال بثقة: «نحن ذهبنا إلى هذا التحالف لتأديب أشرف... وسترَون». هذا الجواب "الفصيح" يُلخّص، إلى حدّ بعيد، قصر النظر الذي أصاب تيار المستقبل نتيجة عزلة قيادته عن شارعها. وإذا كان أحمد الحريري (حاكم تيار المستقبل في الشمال والمسؤول المباشر عن القطاعات والمنسقيات) بعيداً إلى هذه الدرجة عن مزاج الشارع الطرابلسي، فيعني ذلك أن الرئيس سعد الحريري يسكُن المريخ، على أقرب تقدير.
لن يسمح الحريري بإجراء الإنتخابات النيابية إلا إذا تأكد من قدرته على ضبط توسع ريفي
لم ينَم «الشيخ سعد» ليلته أول من أمس. وقف مذهولاً لا يدري ماذا يقول. صدمه الوزير أشرف ريفي. لم يُحرك الأخير أحجار الشطرنج، وإنما قلب الطاولة على رؤوس اللاعبين على الساحة الطرابلسية، وأولهم تيار المستقبل. في السياسة، لن يكون وضع التيار بعد الانتخابات كما كان قبلها. فهذه المرّة الأولى تتمكّن شخصّية متمردة على الحريري من تجاوزه على المستوى الشعبي والتفوق عليه. كرّس ريفي زعامته على أرض طرابلس، وباتت قدرة المستقبليين على تهشيمها كـ«أمل إبليس بالجنة». أما لجوء الوزير السابق إلى الحكم على النتائج بـ«العدل»، مشدداً على أنه يمثل «خطّ الرئيس رفيق الحريري»، فلن يخفف من وطأة انتصاره على هذا الخطّ، مُسجلاً النقاط على الحريرية المتداعية في بيروت، المنهزمة في طرابلس، والمهزوزة في صيدا.
قال الشارع الطرابلسي كلمته: نحن مع تشدد ريفي لا تسويات الحريري. يبقى السؤال: كيف سيتعامل الأخير مع هذا الإنقلاب؟
«موقف تيار المستقبل يُعبّر عنه الرئيس الحريري نفسه». باتت هذه العبارة المهرب الوحيد عند المستقبليين في أوقات الحرج. في العلن، بدت الأمور عندهم «ساكنة» نوعاً ما. ما حصل قد حصل، وغداً يومٌ آخر. لكن هذا اليوم يحمل الكثير من التحليلات لما يُمكن أن يُقدم عليه رئيسهم في ظل خياراته المحدودة على مستوى الإستحقاقات العالقة، من النيابة إلى الرئاسة.
لو قُدّر للرئيس سعد الحريري إلغاء الإنتخابات النيابية أو تجميدها سنوات لفعَل. بحسب الحريريين «ما جناه ريفي ستكون له انعكاسات على شكل الكتل النيابية، ما يحتّم على القوى السياسية إعادة حساباتها». اليوم تختلف المشهدية كثيراً. فمن كان بالنسبة إليهم قبل يوم الأحد صقراً عاصياً، بات اليوم «زعيماً تجاوزت التسونامي التي تسبَّب بها منطقة الشمال». والحريري «لن يسمح بإجراء الإنتخابات، إلا إذا تأكد من قدرته على ضبط توسعه». لا يعلم هؤلاء إن كان الحريري «سيواجه هذا المدّ أو ينفتح عليه»، لكنه حتى أمس آثر الخيار الثاني، بتصريح، من الكويت، أكد فيه «احترام الإرادة الديمقراطية»، وعلى الأرجح أنه سيلعب في ساحة أخرى، هي الساحة الرئاسية. فمن التحليلات التي ألمحت إليها مصادر التيار «تسريع الرئيس الحريري خطواته لعقد صفقة رئاسية تسمح له بالعودة إلى رئاسة الحكومة»، حتى لو اقتضى الأمر «قبول العماد ميشال عون رئيساً، وخصوصاً أن الهاجس بالنسبة إلى رئيس التيار الأزرق استعادة الصوت المسلوب منه».
يبقى هذا الهاجس نقطة في بحر مخاوف تيار المستقبل من الموقف السعودي إزاء ما حققه ريفي. حتى الآن لم تُعلن المملكة على لسان أحد من مسؤوليها نظرتها للمتغيّر الشمالي. عشية الإنتخابات أظهر السعوديون مؤشرين لم يصبا لمصلحة ريفي. الأول: عدم دعوته إلى مأدبة العشاء التي أقامها السفير علي عواض العسيري يوم 20 الجاري. والثاني: إعلان السفير في اليوم التالي أن «دولته تنظر الى الرئيس الحريري على أنه زعيم السنة في لبنان». إلا أن هذين المؤشرين لا بد أن يسقطا على عتبة طرابلس التي قالت نعم لريفي ولا للحريري. تحليل آخر بناه المستقبليون على قاعدة أن «المملكة التي تخلّت عن الساحة اللبنانية، لم تعد تعتبر أن دورها هو بناء زعامة سنية، وإنما التعامل مع أي زعيم يستطيع إثبات حيثيته. ويبدو أن ريفي اليوم هو الأكثر حظاً. بعدما فاز بفارق كبير، ثمّة شيء ما ربما سيتبدّل في الرياض».
كسرت واقعة طرابلس ظهر الحريري. ما استطاع بلعها. كان صداها أقوى من كل التحديات التي واجهته. عندما «طيّره» فريق 8 آذار ومعه الرئيس نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة لم تتهاوَ زعامة الرجل بل زادت صلابتها. وحده أشرف ريفي أسقط الحريري من داخل المستقبل بثورة تحمل شعارات ومبادئ وثوابت ما حاد عنها. بالنسبة الى الحريري وتياره هي «واقعة ديمقراطية لا تبشر بالخير... بل بالأعظم». وعلى المستقبليين التسليم بأنه « جاء زمن الهزائم... وولّى زمن الانتصارات»!