صباح، إمرأة خمسينية من منطقة التبانة. تفرض حضورها في مكتب قائد المحور السابق سعد المصري. هو لم يكن موجوداً، «شباب الشهيد خضر المصري» حاضرون للقيام بالواجب… وأكثر. يتعاملون بلطف مع زوارهم. يعلو صوت مازن حين يتلكأ أحدهم في دراسة لوائح الشطب تحضيراً للإنتخابات الإختيارية. يعود إلى هدوئه مُتذكراً «في بيناتنا بنت»، مُعتذراً عن فورة أعصابه «ولكن هناك عمل». هم يُدافعون عن لائحة «لِطرابلس» التوافقية التي يدعمها الرئيس السابق للحكومة، نجيب ميقاتي، فيما صباح، التي ترتدي الأسود، تصرخ: «بلا ضمير كلّ مين بحط اللائحة. نحن نريد أناس مثقفين». يُحاولون التخفيف من حنقها، فليس من مصلحة أحد أن يظهر حديث كهذا أمام الصحافة. لا تلين. تقف واليد التي تحمل كيس نايلون أسود خلف ظهرها، فيما اليد الأخرى ترسم إشارات وهي تتكلم. «هني هلّق صاروا يحبوا بعضن؟ ما في شي هون. العالم قاعدين لا شغلة ولا عملة». هو انتقام مشروع من سياسيين أداروا ظهورهم للمنطقة تاركين خلفهم قبائح أعظم من أن تُحتمل. الوفاء يتجلّى لدى صباح بانتخاب عضو البلدية الحالية، عربي عكاوي. «عيب علينا ما نوفي بيّو (الشهيد خليل عكاوي). لَكَن مين بدنا نحطّ، تبع (النائب ميشال) عون؟ بدنا نجيب ناس ما منعرفن؟». أبناء «باب الذهب» (سابقاً) هم أبناء الفقر حالياً. ثروتهم ومصدر قوتهم يكمنان في طيبتهم واندفاعهم. وعليهما استند السياسيون الذين قبضوا على قرار أبناء المناطق الشعبية. هذه المنطقة «المنحوسة» تحولت من أغنى منطقة في طرابلس إلى أتعسها. شارع سوريا حيث كان المركز التجاري والصناعي لطرابلس، أصبح خطّ تماس يفصل بين قادة محاور ومقاتلين لا يعرفون كيف كانت تبدأ المعارك ولا كيف تنتهي. جُلّ ما يُدركون «أننا لسنا دواعش ولن نعود إلى حمل السلاح. لسنا نحن من كان يفتح الحرب بل الأجهزة الأمنية». يقول "المسؤول الإعلامي" لـ«شباب الشهيد خضر المصري»، مهدي إنّ «الهدف كان ضرب اقتصاد المدينة والجهل هنا ساعد السياسيين على ذلك». ابن الـ25 عاماً يدرس المعلوماتية ويملك محلا لبيع الهواتف الخلوية، يُشرف على إعداد اللوائح الإنتخابية: «نحن لدينا 6000 صوت سنُجيرهم لمصلحة (الرئيس نجيب) ميقاتي لأنه رجل إنمائي ساعد التبانة. أنا كنت أسمع سعد (المصري) يقول إن ميقاتي مثل أبيه». إلا أنّ معلومات تتحدث عن أنّ أبناء التبانة سيخرقون لائحة التوافق بثلاثة أسماء: عكاوي، أحمد المرج ومحمد مطر.
أنصار ميقاتي في التبانة يحاولون تحييد تيار المستقبل عن سهامهم، لأنه حليف اللائحة حاليا، «والحمدلله رب العالمين». لذلك، يصبّون جام غضبهم على وزير العدل أشرف ريفي. «دعمنا (ريفي) وقال إن قادة المحاور هم أولاده ثم وقّع الخطة الأمنية واعتبرنا ارهابيين». يعتقدون أنّ المعركة في البلدية هي «بين سعد الحريري وأشرف». بعض الزعماء يُنادَون هنا بأسمائهم الأولى.
كنا ندفع الثمن في زمن المعارك وفي الإنتخابات يطلبون منا أن نُصفق

النقمة في التبانة على اللائحة التوافقية ناتجة بشكل أساسي من استبعاد عربي عكاوي عن تركيبتها، بحجة عدم ضمها لأعضاء من المجلس البلدي الحالي. «أنا جايب وحدي 21 ألف صوت. ما يربحوني جميلة»، يقول عكاوي. يجلس عربي في مملكته يحيط به أعضاء ماكينته: عدد من الرجال الداعمين له… دجاجات وبط وشجرة زنزلخت يتفيأ بها الحاضرون. يؤمنون أن عكاوي «حالة اعتراضية ستُفاجئ الجميع. قد لا يربح، ولكن المفاجأة ستكون في الأرقام التي سيُحققها». عربي يبدو غاضباً وهو يقول «كنا ندفع الثمن في زمن المعارك وفي الإنتخابات يطلبون منا أن نُصفق. يوم الاثنين لن تجدي أحدا من السياسيين هنا. نحن الناخب الأكبر "بعد البلد" ويحق أن نكون ممثلين لا أن يختاروا أناساً سجلاتهم في التبانة وهم لا يعرفون طرقاتها». قليلاً، ويصل مرشح لائحة التوافق بسام طرابلسي مع مجموعة من الشباب لـ«يُسلّموا». يضحك أصدقاء عكاوي حين يُغادر الوفد: «كل اللي معو بينتخبوا معنا». و"معنا" تعني أبناء التبانة الذين يرون في عربي وريثاً (سياسياً إلى حد ما) لوالده الشهيد خليل عكاوي، الماركسي الإسلامي الذي قاد المقاومة الشعبية في سبعينيات القرن الماضي وثمانيناته، ثم اغتيل عام 1986. وثمة قناعة عامة هنا بأن الاستخبارات السورية تقف خلف الجريمة التي لا تزال حاضرة بقوة في وجدان أهل المنطقة.
في التبانة 80 ألف نسمة وقرابة الـ53 ألف ناخب. تتألف من عدّة أحياء، أبرزها بعل محسن. الفقر في "البعل" أقرب إلى ذاك الموجود في المدن الساحلية الأخرى، منه إلى البؤس المنتشر في باب التبانة. البعل هو منطقة الطائفة العلوية التي يمثلها حالياً الحزب العربي الديمقراطي. قبل يوم واحد من الإنتخابات يشعر أبناء جبل محسن بغبن شبيه بما يعبّر عنه جيرانهم في التبانة. لم يؤخذ برأي مجلسهم المذهبي (الإسلامي العلوي)، ولا استُشير الحزب الاكثر نفوذاً بينهم. كل القوى المؤثرة في طرابلس، من ميقاتي إلى الحريري والصفدي والآخرين، يريدون أصوات العلويين، لكنهم يخشون غضب "الشارع الطرابلسي"، أي جمهورهم المنتمي إلى الطائفة السنية، إذا ما تبنوا مرشحين قريبين من الحزب وقائده رفعت عيد. "الوجدان" نفسه يحضر هنا. دماء كثيرة سالت على طرفي خط التماس الشهير، وخاصة في جولات العنف التي فاق عددها العشرين منذ عام 2008. القوى السياسية المتعاقبة على "حكم" طرابلس لم تفعل شيئاً لتخفيف حدة العداء بين جبل محسن وباقي أهل المدينة. على العكس من ذلك، غّذت الحقد، ومدّته بالسلاح والمال. ثم يخرج السياسيون قبل الانتخابات ليقولوا: نريد الحفاظ على التمثيل العلوي في المجلس البلدي، لكن، من دون أن نستشير من يؤيده العلويون. كيف سيرد الحزب العربي الديمقراطي؟ يقول عضو المكتب السياسي في الحزب، علي فضة، إن قرابة العشرة آلاف علوي يقترعون في الإنتخابات، «ونبحث في إمكانية أن نصوت للمنفردين من التبانة والجبل». الأخ الأصغر لطرابلس، كما يصف فضة بعل محسن، «مُهمش بسبب موقفنا السياسي المعلن. لا يُراهن أحد أننا سنلين. سنُكمل من دون أن نحتك مع الآخر».
سيُفاجئك أبناء باب التبانة وجبل محسن بلطفهم وابتساماتهم المرحبة، محطمين الصورة النمطية التي تناقلتها وسائل الإعلام عنهم طوال سنوات الاقتتال. أطفال يركضون بين الأزقة. رائحة اللحم المشوي تزكم الأنوف. الشوارع تزدحم ببسطات الخضار والفواكه وآثارها تلتصق بالأرض. كلّ الأحكام المسبقة و"التوصيات" بالإنتباه من «الإرهابيين»، تنتفي بمجرد أن ترى أول بناية «استشهدت» في جولات الحرب بين باب التبانة وجبل محسن، وسكانَها. الشظايا لم تصب الجدران وحسب. الكثير منها ارتد ليصيب القلوب.