قبل 16 عاماً، نفّذ رئيس حكومة إسرائيل ووزير أمنها في حينه، إيهود باراك، انسحاباً أحادياً من جنوب لبنان، بعد احتلال عسكري استمر عقوداً، جربت إسرائيل في خلاله كل أساليب القمع والردع، واستنفدت كل رهاناتها.


المقاومة، من جهتها، تجاوزت كل هذه المحطات، بما يشمل العمليات العسكرية المتعاقبة، وفرضت على الجيش الإسرائيلي معادلات مكّنتها من الاستمرار في تدفيعه أثماناً باهظة، جراء مواصلة احتلاله.

على هذه الخلفية، تنامى في إسرائيل تيار، وتحديداً في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، طالب حكوماته المتعاقبة بضرورة الانسحاب من لبنان. شعار حملة الانسحاب تركز على أن مواصلة الاحتلال تسبب مزيداً من الخسائر البشرية في صفوف الجيش، ولا تحقق الأهداف المؤمّلة منه، خصوصاً في ما يتعلق بتوفير الأمن لشمال إسرائيل. هذا التسليم، جاء بعد أن فشلت الآلة الحربية الإسرائيلية في ردع المقاومة، فيما عجزت المنطقة المحتلة التي كانت تسمى «الحزام الأمني» عن تحقيق الأمن للمستوطنين.

وجدت إسرائيل، قيادة وجمهوراً، نفسها أمام واقع مشكّل من الآتي: مقاومة مستمرة فاعلة وجدية وفي مسار تصاعدي؛ في المقابل، جيش مكبّل بالمعادلات التي فرضها حزب الله، وللمفارقة، نتيجة عدوانين (1993 و1996) أُريد لهما أن ينهيا المقاومة، ومستوطنات قلقة في الشمال من سقوط الصواريخ، وعمليات بوتيرة متصاعدة ضد المواقع والنقاط الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية. هذا الواقع، دفع الجمهور الإسرائيلي، ومعه جزء كبير من القيادات، إلى التساؤل عن جدوى بقاء الجيش الإسرائيلي في لبنان.

صاحب القرار في تل أبيب، والنخبة العسكرية والسياسية الحاكمة، وصلت إلى النتيجة نفسها. إلا أن فكرة الانسحاب كانت عرضة لموانع، من بينها: شكل الانسحاب ومضمونه، والاتفاق وآلياته مع الطرف الثاني، ومصير المقاومة وسلاحها، والتدابير الأمنية التي تكفل لإسرائيل أمنها واستقرارها انطلاقاً من لبنان، وإمكانات توظيف الانسحاب في تسوية مع لبنان وسوريا (في حينه).



بعد رفض الأسد عرض التسوية، كان باراك أمام خيارين: التكيف مع النزف أو المغامرة بالانسحاب




كان واضحاً أن صاحب القرار في تل أبيب يقف أمام محاذير جمة، منها ما يتطلب عملاً سلبياً، ومنها ما يتطلب عملاً إيجابياً: ممنوع أن يكون الانسحاب أُحادياً من دون قيد أو شرط؛ ممنوع تحقيق هذه السابقة المضرّة استراتيجياً؛ ممنوع أن يخرج الجيش الإسرائيلي تحت النار؛ ممنوع أن يُترك جيش لبنان الجنوبي لمصيره لتداعيات ذلك على فلسفة العمالة وتأثرها السلبي لاحقاً. في المقابل، يجب على إسرائيل أن تستغل الانسحاب في إطار تسوية واتفاق مع سوريا (الحاكم الفعلي للبنان في حينه)؛ إجبار الطرف الثاني على تدابير على طول الحدود وما وراء الحدود تحول دون فعل ــــ أو تشكل فعل ــــ مضاد لإسرائيل؛ التأكد من مصير جيش لحد عبر ضمّه إلى القوى الأمنية اللبنانية أو بقائه في جنوب لبنان كجهة فاعلة ومؤثرة. كانت إسرائيل أمام معضلة: الإبقاء على الاحتلال مع أثمان وبلا نتائج، والانسحاب الذي دونه عوائق.

في عام 1999، تبلور لدى المرشح لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، إيهود باراك، حل للنزف الإسرائيلي في جنوب لبنان، عبر الانسحاب منه. لم يكن باراك طارئاً على المشهد اللبناني، بل تسلق الرتب والدرجات الرفيعة في المؤسسة العسكرية، مشاركاً ومخططاً ومنفذاً، لكل محاولات السعي الإسرائيلي لإنهاء المقاومة والحد من فاعليتها، بلا جدوى. بقاء الاحتلال، بالنسبة إليه وإلى أقرانه، لم يكن ممكناً، وكان لا بد من اجتراح الحلول. وجد باراك توليفة تبعد إسرائيل عن المحظور وتحقق لها الفوائد: الانسحاب من خلال اتفاق مع سوريا يضمن لإسرائيل الخروج المشرف مع قيد وشرط، ويمنع كل سلبياته، مع فوائد استراتيجية ضد المقاومة وتشكيلاتها وتناميها لاحقاً.

كان واضحاً أن باراك تحت تأثير توقعات مفرطة حول التسوية التي كان ينوي إنجازها مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. توقع أن يرضى الأسد الأب بالتسوية التي ينوي عرضها عليها، وأن يرضخ لشروطها، ومن بينها الانسحاب من لبنان مع قيد وشرط، بما يضمن التزام إنهاء المقاومة مع تدابير أمنية صارمة في الساحة اللبنانية تحقق المصالح الأمنية والسياسية الإسرائيلية. كان باراك يريد أن يحول التهديد إلى فرصة، إلا أن مناعة الرئيس الأسد ــــ كما يذكر باراك في كتابه الأخير «قصة حياتي» ــــ وصلابته في التمسك بمصالحه، حالا دون التسوية، وبالتالي دون الانسحاب باتفاق من لبنان.

لكن كيف تحول الانسحاب من انسحاب باتفاق إلى انسحاب أحادي بلا قيد أو شرط؟ وكيف استمر باراك في خطاب الانسحاب رغم صدّ الأسد له وللتسوية؟ وما هو موقف المؤسسة العسكرية؟ وما هي خطة الجيش للانسحاب ومداه وأهدافه؟ وكيف تخلت إسرائيل عن جيش لبنان الجنوبي بإذلال غير مسبوق؟ بل كيف اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب مبكراً، بإذلال، بعد انهيار دفاعاتها وعملائها وفرارهم؟

في أعقاب رفض الأسد عرض التسوية، كان باراك أمام خيارين: التكيف مع استمرار النزف، أو المغامرة بالانسحاب بعد أن استنفدت تل أبيب كل المحاولات في مسار الإبقاء على الاحتلال. هكذا نضج القرار لدى باراك، بعد أن اعتبر أن أهون الشرين هو وقف النزف عبر الانسحاب، حتى مع ثمن الظهور بصورة المنكسر.

في كتابه المنشور حديثاً، تحت عنوان «فجر الصباح – القصة الحقيقية للانسحاب من لبنان»، يشير الرئيس السابق لقسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، عاموس غلبوع، إلى أنه في 14 تشرين الأول 1999، استدعى باراك رئيس الأركان (في حينه) شاؤول موفاز، وقال له إنّه سيبذل كلّ جهد لضمان انسحاب من لبنان باتفاق مع سوريا. وأورد غلبوع في كتابه، الذي استند إلى كمٍّ هائل من الوثائق والمحادثات والمداولات المسجلة لدى الجيش الإسرائيلي، أن السكرتير العسكري لباراك، غادي ايزنكوت (الرئيس الحالي لأركان الجيش)، استدعى موفاز إلى مكتبه، في 8 شباط 2000، ومجموعة من كبار ضباط الأركان العامة، وتحدث باراك مع الضباط قائلاً: «بذلت جهوداً كبيرة لإجراء مفاوضات مع سوريا، لكننا فشلنا. من الواضح أن علينا التحضير للانسحاب من لبنان من دون اتفاق». وعندما سأله موفاز: هل يعني ذلك أنك اتخذت قرارك وأن علينا التخطيط للانسحاب من دون اتفاق؟ أجاب باراك: «علينا الانسحاب تدريجاً، لا دفعة واحدة، والمهم أن لا يعلم جيش لحد بالقرار، وأنا أخطط لأجتمع بهم لرفع معنوياتهم».



حزب الله فرض شكل

الانسحاب وتوقيته بعدما استنفدت كل محاولات كبحه



في المقابل، كانت للجيش الإسرائيلي نظرته الخاصة، التي تمسّك بها ابتداءً قبل أن يتراجع عنها لاحقاً، وتحديداً بعد تراجع حظوظ التسوية مع سوريا، وبعد الديناميكيات التي سبقت الانسحاب الفعلي في أيار 2000، وقرار القيادة السياسية، خاصة مع توجه جيش لحد للتفكك. وفي مقابلة حديثة لرئيس شعبة العمليات في الأركان العامة للجيش في حينه، اللواء غيورا أيلاند، (إذاعة الجيش 2/5/2016)، كشف أن «رؤية الجيش الإسرائيلي كانت تقضي بالبقاء داخل الأراضي اللبنانية ضمن حزام أمني بعرض كيلومتر واحد بدلاً من عمق ما بين 10 و15 كيلومتراً، وإبقاء سيطرتنا على العوارض الجغرافية الحاكمة، على أن تواصل الوحدات العسكرية عملها كما في السابق، مع تعزيز جيش لبنان الجنوبي ودعمه».

لكن ما الذي حدث كي يغير الجيش الإسرائيلي نظرته، بل ويعجل بالانسحاب؟

يؤكد أيلاند أن حزب الله هو من فرض شكل الانسحاب من لبنان وتوقيته بعد أن تفكك جيش لحد، الأمر الذي فرض التعجيل بالانسحاب بلا ترتيبات. ويضيف: «خفّف الجيش الإسرائيلي، بصورة غير رسمية، وجوده في لبنان وأخرج معداته الثقيلة من هناك، وكنا ننتظر القرار النهائي للانسحاب. في 22 أيار، تغيّرت المعادلة، وما حصل أن جيش لبنان الجنوبي بدأ بالتفكك بعد أن عاين سحب معداتنا الثقيلة، ما أدى إلى سيطرة حزب الله على مواقعه».


فجأة تذكرت إسرائيل القرار 425


كان القرار الأممي 425، الصادر عن مجلس الأمن عام 1978، وقضى بوجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبناني، منسيّاً في تل أبيب. لم يُذكَر في المداولات التي سبقت الانسحاب، إذ كان التوجه أن يجري الانسحاب الأحادي الجانب بعد فشل الاتفاق مع سوريا. قبل أشهر من الموعد المفترض، كما كان مقرراً في حزيران 2000، قدّم منسق الأنشطة الإسرائيلية في لبنان أوري لوبراني، اقتراحاً تعامل معه عدد من كبار الضباط باستخفاف، بل ووصفوه بـ»السخيف». بحسب لوبراني، بإمكان إسرائيل أن تنسحب وفقاً للقرار 425، بهدف الحصول على تغطية الشرعية الدولية للانسحاب. وافق باراك على الاقتراح، مبتعداً عن فكرة الانسحاب الأحادي. وبحسب ما يوثق عاموس غلبوع في كتابه، رأى باراك أن الانسحاب وفقاً للمظلة الدولية يُعَدّ مكسباً استراتيجياً في وجه حزب الله، رغم أنه يعني الانسحاب إلى آخر نقطة على الحدود، كما تراها الأمم المتحدة.

فضّل باراك ما قال إنها المظلة الدولية التي تصعّب على حزب الله شنّ عمليات بعد الاعتراف الأممي بالانسحاب، على انسحاب وفقاً لخريطة إسرائيل وترسيمها هي للحدود، كي لا تكون النقاط الخلافية لاحقاً ذريعة لتلقي الضربات من قبل حزب الله. كان باراك يفكر في وقف النزف الإسرائيلي قبل الانسحاب، ما دفعه إليه بلا اتفاق ولا قيد ولا شرط، وفكّر لاحقاً في النزف الإسرائيلي ما بعد الانسحاب، ما دفعه أيضاً إلى التقهقر إلى الحدود الدولية، من دون التمسك بالنقاط الحاكمة، كما أراد الجيش الإسرائيلي في حينه.




إسرائيل تراجعت عن التزاماتها لجيش لحد


يشير غلبوع في كتابه إلى أن «الشعور بالأمن والمستقبل كاد يتلاشى لدى عناصر لبنان الجنوبي عشية الانسحاب. كانوا يعاينون تحضيرات الجيش الإسرائيلي لإخلاء مواقعهم، قبل العمل على إيجاد حل لمشكلتهم في لبنان.

في 9 أيار عام 2000، عقد قائد جيش لبنان الجنوبي، الجنرال أنطوان لحد، مؤتمراً صحافياً دعا فيه الرئيس اللبناني (إميل لحود) إلى إصدار عفو عن عناصر الجنوبي. رفض لحود الطلب، بعد 48 ساعة، في موازاة موقف صدر عن نائب الأمين العام لحزب الله (الشيخ نعيم قاسم)، طالب فيه عناصر الجنوبي بخلغ بزاتهم العسكرية والفرار والنجاة بالنفس.

هذه التطورات كانت مدعاة للكآبة. كآبة تغلغلت عميقاً في نفوس ضباط جيش لحد وجنوده. تبعاً لذلك، توجه رئيس الوزراء إيهود باراك إلى قيادة المنطقة الشمالية للقاء (رئيس الأركان شاؤول) موفاز، ليطلع منه على الأوضاع. في 11 أيار، يدعو باراك الجنرال لحد إلى زيارة وزارة الأمن في تل أبيب. وكما يذكر (منسق الأنشطة الإسرائيلية في لبنان أوري) لوبراني، كان اللقاء مشحوناً وغير ودي، وتضمن تراجعاً من باراك عن التزامات إسرائيلية حول سلامة عناصر الجنوبي ومستقبلهم وأمنهم. في نهاية اللقاء، وعد باراك، لحد بلقاء آخر بعد عودته من الولايات المتحدة. وإلى ذلك الحين «يمكنك أن تغادر إلى باريس». طلب باراك من الجنرال اللبناني.

فكرة تخلي إسرائيل عنه وعن عناصره، لم تفارق أنطوان لحد. كان يدرك جيداً أن باراك تخلى عنه، وكل ما كان يريده هو إبعاده عن إسرائيل والتخلص منه. توجه لحد إلى فرنسا، التي عاد منها ذليلاً مع خزي، بكل ما لكلمة خزي من معنى، بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان».