المصارف تتمرّد: الحاكم لا يُلزِمنا! عبر بيان إعلامي أصدره من باريس، قدّم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اقتراحه لحل الازمة الناشئة مع حزب الله. وهذه الازمة نشأت نتيجة انصياع المصارف للقانون الأميركي الرامي إلى "تجفيف تمويل حزب الله"، بل ومزاودة بعضها على الأميركيين عبر تطبيق قانونهم على غير المستهدفين به (كقرار أحد المصارف إقفال حساب توطين هاتف لموظفة في "هيئة الأسواق المالية"، وهي هيئة رسمية رقابية على الأسواق المالية). اقتراح حاكم المصرف المركزي لا يلغي تعميمه (رقم 137) الصادر في 3 أيار، الذي أشعل فتيل الازمة. كذلك فإنه لا يستند الى الاتفاق السابق الذي أبرمه سلامة مع الحزب وأخلّ به. إلا أنه جاء بمثابة "إعلان نوايا" عن إمكانية وضع آلية جديدة لتطبيق التعميم المذكور، تحدّ قليلاً من "التعسّف" الذي مارسه بعض المصارف ضد أفراد ومؤسسات ليسوا مدرجين على لوائح العقوبات الاميركية ولا يوجد أي مبرر لإقفال حساباتهم المصرفية.

مطالعة دفاع

بداية، دافع سلامة عن نفسه، وحاول تبرير تعميمه انطلاقاً من واجباته "القانونية" و"الوطنية"، إذ اعتبر أن قانون مكافحة تمويل حزب الله دولياً "هو قانون أميركي مطلوب تطبيقه عالمياً وفي لبنان، وبالتالي فإن التعميم رقم 137 كان واجباً قانونياً لبنانياً". وأضاف "إن المادة 70 من قانون النقد والتسليف تطلب من مصرف لبنان تأمين الاستقرار التسليفي. ولا يمكن تأمين الاستقرار التسليفي إذا لم يطبق هذا القانون الأميركي"، ليخلص الى "أن إصدار التعميم رقم 137 يريح المصارف المراسلة، ويؤكد ملاءمة العمل المصرفي في لبنان مع ما هو مطلوب دولياً. ولو لم نفعل ذلك، لكان بإمكان المصارف المراسلة تطبيق سياسة التقليص من المخاطر (de-risking)، فيصبح قطاعنا المصرفي معزولاً عن العالم". ولكي يعزز من هذه الحجّة، أشار سلامة الى "أن تمويل لبنان يرتكز أساساً على الأموال الوافدة إليه من المغتربين وغير المقيمين، وأن المقيمين بحاجة إلى تواصل مصرفي خارجي واسع ودائم لتمويل الاستيراد والتصدير والحاجات العائلية والشخصية".
لكن هذه المطالعة الدفاعية لا تصيب أصل الازمة. فحزب الله لم يطلب أبداً "عدم التزام المصارف اللبنانية قواعد عمل النظام المالي العالمي التي تلتزمها جميع دول العالم المشاركة في هذا النظام"، بحسب ما زعمت كتلة المستقبل في بيانها أمس. بل ذهب الحزب الى إبرام اتفاق مع حاكم مصرف لبنان يقضي بتطبيق القانون الاميركي، ولكن بشرط أخذ موافقة مصرف لبنان المسبقة على أي إجراء ينوي أحد المصارف اتخاذه، كما يقضي بعدم التعرّض لأي حساب بالليرة اللبنانية، ما دام صاحبه غير مدرج على لوائح العقوبات. بحسب المعلومات، كان سلامة مرتاحاً الى هذا الاتفاق، وأعلن استعداده للالتزام به. إلا أن ضغوطاً وتدخلات أطاحت الاتفاق، ودفعت سلامة الى إصدار تعميمه، معرّضاً شريحة واسعة من اللبنانيين للابتزاز والاستنساب والاجراءات العقابية، إذ لم يميز الليرة اللبنانية، وترك للمصارف حرية التصرّف والاكتفاء بتبرير أي إجراء بعد تنفيذه لا قبل ذلك، ولم يلتزم بنص القانون الاميركي الذي يتحدث عن تعطيل عمليات مصرفية لا إقفال حسابات!

أي آلية يقترحها سلامة لتجاوز الأزمة؟

لا يتطرق "إعلان النوايا" الى مسألة الحسابات بالليرة. وبحسب المعلومات، فإن بعض الاطراف المحلية التي تتصل بالادارة الاميركية، نبّهتها، عن قصد أو عن غير قصد، الى هذه المسألة، وبالتالي أصبحت الادارة الاميركية متشددة لجهة أن تأتي الاجراءات شاملة كل العملات. وقالت مصادر مطلعة إن سلامة أنّب المسؤولين في جمعية المصارف في اجتماعهما الاخير على سلوكهم في الاتصالات مع الاميركيين وتعدّيهم على صلاحيات السلطة النقدية. إلا أن سلامة حاول إيجاد آلية جديدة تسمح بالتزام المسألة الاخرى في الاتفاق مع حزب الله، أي أن يكون كل مصرف ملزماً بأخذ إذن مصرف لبنان قبل التعرّض لأي حساب مصرفي.
يبرر سلامة عدم التزامه بهذه المسالة بـ"أنه بموجب قانون السرية المصرفية، لا يحقّ للمجلس المركزي لمصرف لبنان الاطلاع على حركة الحسابات الدائنة. كما لا يمكنه قانوناً إرغام المصارف على إطلاعه على أي حساب دائن. كما لا يحق للجنة الرقابة على المصارف الاطلاع إلا على الحسابات المدينة". لذلك، يقترح سلامة أن تتولى "هيئة التحقيق الخاصة" مسؤولية مراقبة إجراءات المصارف والحد من التعسف، مشيراً الى أنه "تم الاتفاق في الاجتماع الأخير لهذه الهيئة على المبادئ الأساسية التي سنتابع بموجبها، ومن خلال هذه الهيئة، تصرفات المصارف مع زبائنها بخصوص تطبيق تعميم مصرف لبنان رقم 137. ويحق قانوناً لهذه الهيئة دون سواها الاطلاع على الحسابات الدائنة والمدينة دون الاعتداد تجاهها بالسرية المصرفية".
يحدد بيان سلامة هذه المبادئ على الشكل الآتي:
"باستثناء الحسابات العائدة لأشخاص أو مؤسسات مدرجة أسماؤهم على اللائحة السوداء الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الخارجية في وزارة الخزانة الأميركية OFAC،
(a) على المصارف التي تريد إقفال حسابات مؤسسات أو أشخاص لأنها تعتبرها مخالفة للقانون الأميركي أن تقدم التبرير لذلك قبل إقفال الحساب.
(b) يجب أن يتضمن التبرير حركة الحساب (الوتيرة/الحجم).
(c) على المصرف أن ينتظر ردّاً من هيئة التحقيق الخاصة قبل إقفال الحساب، وإن لم يبلغه الردّ خلال 30 يوماً، يتصرّف عندها المصرف على مسؤوليته.
(d) يمكن للمصارف ولهيئة التحقيق الخاصة طرح الموضوع على الهيئة المصرفية العليا إن اقتضت الحاجة، علماً بأن قرارات هذه الهيئة غير قابلة للمراجعة وفقاً للقانون اللبناني.
يتعهد سلامة، بحسب بيانه، بـ"إقرار هذه المبادئ وتحويلها إلى تعميم صادر عن هيئة التحقيق الخاصة، في أقرب وقت، بعد استكمال الدراسات القانونية محلياً ودولياً، توخيّاً للدقة والصوابية في المواد التي تعكس هذه المبادئ. حينها يطرح الموضوع على مجلس هيئة التحقيق الخاصة، ويصدر التعميم رسمياً مع مفعول رجعي مطابق لتاريخ إصدار تعميم مصرف لبنان. كذلك ستقوم لجنة الرقابة على المصارف بإصدار تعميم تطبيقي له صلة بالحسابات المدينة التي توافق على إقفالها وكيفية معالجتها حسابياً ومصرفياً".

موقف حزب الله

إعلان حاكم مصرف لبنان لم يخفف من حدّة هجوم حزب الله عليه. ففي حين علّق أحد المعنيين بالمفاوضات مع سلامة بأن ما أعلنه الأخير «معالجة غير كافية» وأن "العبرة في مدى التزام المصارف في تطبيق تعاميم مصرف لبنان"، واصلت قناة "المنار" في مقدمة نشرتها الإخبارية المسائية أمس انتقاداتها للانصياعِ للقراراتِ الاميركية، معتبرة أنها "حرب اقتصادية يخوضها البعض بالوكالة على جمهور وأهل المقاومة، بل على كلّ اللبنانيين تحت عنوان الانضباطية المصرفية وعضوية لبنان في الاسرة الدولية". وقالت: "هل يظن البعض أن ما لم يأخذوه بتهويل السياسة والامن، قادرون على أخذه بأوهام الاقتصاد؟ وهل الانهيار الاقتصادي أو النقدي إذا ما وقع قادر على التمييز بين لبناني وآخر؟". ووصفت بيان سلامة بأنه "آخر محاولات الاجتهاد من وراء البحار". ورأت أن اعتبار "تبرير إقفال أو عدم فتحِ حساب يعود الى هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان هو كلام لا يعفي القيّمين من المسؤولية عمّا تتجه اليه ممارسات البعض المتأمرك أكثر من الاميركيين".
مصادر على صلة بالمفاوضات توقّفت عند عبارة «الدراسات القانونية محلياً ودولياً» التي وردت في بيان سلامة، معتبرة أنها دليل على أن سلامة لا يزال تحت السقف الأميركي، فيما حزب الله يريد من المؤسسات اللبنانية، وفي مقدمها مصرف لبنان، أن تدافع عن سيادة الدولة في وجه العدوان الأميركي لا أن تنصاع للسقوف التي يحدّدها الأميركي.
بحسب هذه المصادر، يصرّ حزب الله على إلغاء التعميم 137 والعودة الى الالتزام بالاتفاق المبرم مع سلامة، ولا سيما لجهة عدم إخضاع الحسابات بالليرة لسلطة الادارة الاميركية، أي أن يجري تطبيق القانون الأميركي على العمليات بالدولار أو بالعملات الأجنبية فقط. وتوضح المصادر أن الاتفاق جرى على أساس أن حسابات الليرة لا تستعمل للتحويل إلى الخارج، وهي في غالبيتها العظمى حسابات ادخار وحسابات توطين رواتب وقروض وتسديد فواتير... لكن المعطيات تؤكّد أن بعض المصارف تواطأ مع بعض الأطراف السياسية للنيل من حزب الله والمساعدة على خنقه والتضييق على بيئته، وهناك احتمال أن تكون مصارف أخرى قد أسهمت «عن غباء» في هذا الأمر. فما حصل هو أن وفد مجلس إدارة جمعية المصارف كان قد طلب من مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية، قبل صدور المراسيم التطبيقة للقانون الأميركي الاسود، تفسيراً عن إمكان إبقاء الحسابات بالليرة متاحة للاستعمال من قبل مؤسسات اجتماعية تابعة للحزب أو قريبة منه، وذلك كون القانون الاميركي لا يذكر شيئاً عن طبيعة الحسابات ونوع العملات. سرعان ما انتبه الأميركيون إلى هذه النقطة، فجاء الردّ في المراسيم التنفيذية التي ذكرت تحديداً «كل العملات».
في اللقاء مع وزير المال أمس، أقرّ أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية المصارف بأن القانون الأميركي لم يذكر إغلاق الحسابات، بل تحدّث عن «العمليات»، وبالتالي، فإنه باستثناء الأشخاص المدرجين على اللوائح الأميركية السوداء، لا يجب التعرّض للحسابات بأي عملة، بل يجب إيقاف العمليات المشتبه فيها!




المصارف غير ملزمة بتطبيق التعاميم!


بدأت جمعية المصارف جولة اتصالاتها لتبرير إجراءاتها. التقت وزير المال علي حسن خليل أمس بناءً على طلبها، وتلتقي اليوم وزير الصناعة حسين الحاج حسن والنائب علي فياض بناءً على طلبها أيضاً. طلب الجمعية موعداً من حزب الله أثار موجة من التهكّم بين العديد من المتابعين، وبدأ تداول "نكتة" تقول إن المصارف ستلجأ الى إقفال حسابات مالكيها الذين يقيمون علاقات واتصالات مع الحزب على غرار ما فعلته مع عشرات الافراد والمؤسسات بالحجّة نفسها.
بحسب المعلومات عن اللقاء مع وزير المال، لم تطرح الجمعية أي حل سوى مواصلة ما تقوم به، وذهب بعض أعضاء الوفد المصرفي الى اقتراح أن يعاد فتح الحسابات المصرفية المقفلة في 7 مصارف محلية ليس لديها مصارف مراسلة أميركية. لم تكتف الجمعية بذلك، بل ذهبت الى المجاهرة أمام وزير المال بـ"أن المصارف غير ملزمة قانوناً بتطبيق تعاميم مصرف لبنان ولكنها تطبقها"، في إشارة واضحة الى أنها ستواصل إجراءاتها حتى ولو صدر تعميم جديد من مصرف لبنان يمنعها من اتخاذ إجراءات تعسفية. وبحسب مصادر الجمعية، فإن المقصود بذلك أن القانون لا يُلزِم المصارف بفتح حساب كما لا يمنعها من إقفال أيّ حساب. وبالتالي، لا يمكن أيّ تعميم أن يخالف المبدأ القانوني. هذا الموقف سيكون مصدراً لتوتر محتمل في لقاء الجمعية مع ممثلي حزب الله. وبحسب مصادر معنية، لن يقبل ممثلا الحزب بأي «مساومة على السيادة اللبنانية»، التي تكمن في الحق في فتح حسابات بالليرة، وفي جعبة الحزب أكثر من خيار للتصعيد مع المصارف؛ فالموقف الصادر عن كتلة الوفاء للمقاومة «هو بداية المواقف المتدرّجة»، تقول المصادر، مشيرة إلى أن الحديث المتداول اليوم يتطرق إلى «استعداد الكثير من المناهضين لهذا النهج المصرفي، لنقل حساباتهم من المصارف التي ستغلق الحسابات بطريقة عشوائية. هناك أكثر من خيار ومستوى للتعامل مع المصارف».



صلاحيات مفوّضي المراقبة


تحدث بيان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن مبرّرات صدور التعميم 137، مشيراً إلى أنه «بموجب قانون السرية المصرفية لا يحقّ للمجلس المركزي لمصرف لبنان الاطلاع على حركة الحسابات الدائنة. كما لا يمكنه قانوناً إرغام المصارف على إطلاعه على أي حساب دائن. كما لا يحق للجنة الرقابة على المصارف الاطلاع إلا على الحسابات المدينة». غير أن المطلعين قالوا إن القوانين التي ترعى عمل السلطة النقدية تمنحها صلاحيات شبه مطلقة في إدارة النقد والحفاظ على سلامة القطاع، وبين هذه الصلاحيات يتيح القانون لمصرف لبنان الاطلاع على الحسابات الدائنة من خلال مفوّضي المراقبة.