نعم، ثمة شيء ما بين العتب وعدم الفهم المتبادلين، يسري بصمت وكتمان بين شارع التيار الوطني الحر وشارع حزب الله. لا يصح الكتمان ولا يجدي. يكفي دليلاً أن عبارة واحدة كتبت بدافع الحرص قبل يومين، لتنبيه زعيمي "التفاهم" إلى أن سوءاً يعتريه، فجّرت مكبوتات من التشنج لامست عداء الشامتين على انتظار أبدي.آخر عوارض ما يجري بين الطرفين، ظهر على هامش الانتخابات البلدية لمدينة زحلة. في لحظة، بدا أن "التيار" في موقع والحزب في موقع آخر. فوجئ بعض الأصدقاء المشتركين بما يحصل. ثارت غيرتهم وحرصهم. فتطوع بعضهم لمساع حميدة. في الرابية لم يحظوا بكلمة. لا مشكل إطلاقاً. في الضاحية الكلام مماثل: حلفنا استراتيجي وثابت وصلب. ولا يمكن لفاصلة بلدية أن تغير شيئاً من رسوخه. غير أن البوح في الشارع وبين الأنصار كان مغايراً. العونيون يختصرون الحيثيات بسؤال: كيف نذهب إلى خوض معركة زحلة الأساسية بالنسبة إلينا في السياسة، فلا نجد حزب الله معنا؟
نقل الوسطاء الحرصاء تساؤلات البرتقاليين إلى أصدقاء حزب الله. فأخذ هؤلاء على عاتقهم ومسؤوليتهم الخاصة مهمة الشرح والبوح. يعرض القريبون من حزب الله قراءتهم بشكل منهجي متسلسل. أولاً، لا يمكن للعونيين مطالبة أنصار الحزب ولا معاتبتهم. فهم ذهبوا إلى اتفاق بلدي في زحلة مع خصوم حزب الله في السياسة، من دون أي تنسيق معهم. وبالتالي لا يمكنهم أن يتوقعوا منهم الالتحاق بموقفهم هذا تلقائياً. أيضاً هم ذهبوا إلى ائتلاف مع الحريري في انتخابات بيروت، من دون حزب الله. ولم يقابل أنصار الحزب خطوتهم هذه بأي سلبية ولا أي تململ. فلماذا لا يتفهم العونيون موقف الحزب المماثل في غير مكان؟ حتى غداً في جزين، يستبق القريبون من حزب الله، سيتجه العونيون إلى منافسة حادة، بلدياً ونيابياً، مع طرف محلي محسوب على حليف حزب الله، نبيه بري. ولن يجد الحزب في ذلك أي غضاضة ولن يعتبر الموقف العوني أحادياً ولا سلبياً تجاهه. بل هو مجرد أداء طبيعي في سياق الحيّز الخاص لكل من الحليفين، وضمن الهوامش السياسية المنطقية لجسمين سياسيين كبيرين ممتدين على مساحة البلد. ما يعني احتفاظ كل منهما باعتباراته الخاصة وحساباته الخاصة في كل ما لا يتعارض مع سياق تحالفهما.
أكثر من ذلك، يقول القريبون من الحزب، في زحلة نفسها، يدرك العونيون كما يدرك حزب الله نفسه، أن للمعركة البلدية أبعاداً سياسية أكبر من هذا الاستحقاق العابر. فهي مرتبطة مباشرة بالاصطفافات السياسية داخل المدينة، والتي ستفرض نفسها لاحقاً على استحقاق الانتخابات النيابية. والطرفان لم ينسيا بعد أن هذه الدائرة الانتخابية هي التي أعطت الأكثرية النيابية للفريق الحريري سنة 2009. وبالتالي، وعلى هامش خوض الانتخابات البلدية، كان ثمة حرص لدى حزب الله، على ألا يؤدي الاستحقاق البلدي إلى تراكمات وذيول تثقل الاستحقاق النيابي لاحقاً، وتقود إلى خسارة معركته النيابية مستقبلاً. مع ما يمكن أن يعني ذلك من احتمال خسارة الأكثرية البرلمانية مرة أخرى. لذلك، وبدافع حرص حزب الله على مصلحة حلفائه ومصلحته، قرر ألا يقطع مع أطراف زحلاويين آخرين. رغم تهافت بعضهم إلى الارتماء في الحضن الحريري. بما يبقي لحزب الله على الأقل، قدرة التحرك نيابياً، ولو من باب مشاركة الحريري في خرقه الزحلاوي المحقق. فأين الخطأ في ذلك؟!
يتفهم القريبون من التيار الوطني الحر حيثيات موقف حزب الله. ويحاولون تقبلها. غير أن ذلك لا يلغي ملاحظاتهم حيالها. يقولون: بالنسبة إلى بعض تموضعاتنا البلدية، لا يمكن التعويل عليها لبناء أي مستمسك. يكفي أن نلاحظ مثلاً أن خيارنا في انتخابات بلدية بيروت، هو نفسه خيار الرئيس نبيه بري. ولا نعتقد لحظة أن ذلك أحرج حزب الله أو أوجد أي شعرة في المسافة بينهما. أما في جزين، فالمسألة استوفت بحثها وتمحيصها منذ العام 2009. ومذذاك تم حلها بين الرابية والضاحية، من دون أي غبار في أجوائهما. أما مسألة زحلة فمختلفة. إن لجهة تحالفنا مع القوات، أو لجهة المعنى السياسي لانتخابات بلديتها.
فإعلان النيات المشترك مع القوات، خطوة كان حزب الله وسيظل شريكاً مستتراً فيها. ولا ضرورة للمزيد. تماماً كما كان تفاهم مارمخايل قبل عشرة أعوام مشروع شراكة يسعى ويطمح إلى ضم الحريري. فلا نقزة ولا قطب مخفية يومها ولا الآن. علماً أن تفاهم الحزب مع القوات سابق. وهو بدأ بشكل مباشر في إطار التحالف الرباعي سنة 2005. يوم اقترع حزب الله لصالح مرشح سمير جعجع في بعبدا عاليه... كي لا نستذكر كل تفاصيل تلك المرحلة. غير أن انتخابات زحلة قبل يومين، كانت تشكل تحدياً وجودياً لميشال عون، بعد إقراره خطوة التوافق المسيحي حول رئاسته. وأي نكسة هناك، كانت ستعني مقتلاً لهذا المشروع. وكان كثيرون في الداخل كما الخارج، مستنفرين للمسارعة ليل الأحد الماضي، ليعلنوا في الإعلام وللسفارات ولكل الكون، ها قد انتهى ميشال عون. وهنا مكمن الخطر الذي كان قائماً. فضلاً عن محذور آخر كان ممكناً، وهو إعطاء الانطباع الخاطئ، بأن الصوت غير المسيحي هو من قرر مصير عاصمة الكثلكة. لا في قضائها، بل في قلب أحيائها. لكن الأخطر، كما يسر القريبون من التيار، كان الإيحاء بمحذور أشد إقلاقاً. وهو أن البعض يرى في التحالف مع عون مجرد مرحلة. بعده وبعدها، لا بد من العودة إلى التعامل مع البيوتات المسيحية، لا مع مرجعيات هذه الجماعة...
ينتهي النقاش كله في الرابية. يبستم ميشال عون عند كلماته الأولى. قبل أن يقفله بعبارة وحيدة: "أنا أعرف السيد وأثق به. هذا يكفيني، وهذا يكفي". لكن الكلام يظل ضرورياً، لنقل ما بين الرجلين إلى ما بين جماعتين، وإلى بلد كامل، يتوق إلى التفاهم، ويحرص على معالجة أي سوء... تفاهم.