كان عمري ثلاث عشرة سنة حين دخلت المنزل بزيّ مدرسيّ وحقيبة لا كتاب تاريخ فيها يحكي بطولات مقاومين ضد الاحتلال الإسرائيلي. تزامن قرعي جرس الباب مع إعلان قناة «المنار» أسماء بلدات جنوبية محرّرة. باغتتني صرخة عفوية من والدتي تقول فيها: «ضيعتنا تحرّرت». ليس سهلاً على فتاة مثلي، بذاكرة سمكة، أن تكوّن في لحظتها مشهد عامين ونصف رأت فيها بلدتها في فترات متقطّعة. هي ليست فترة كافية لتسكنك الأماكن أكثر ممّا يجب، كما أن ليس لها أن تسلبك شعور الذين تغرّبوا.
لحظة سماع الخبر عزمت أن لا أعلّق. هكذا من دون سبب. لكنني أدركت أنني لم آلف فكرة نسيانها، وبدت لي الليالي التي قضيتها في قريتي على قلّتها، أشبه بعهد من حنين لعودةٍ أكيدة!
فتح التحرير باباً في زمن الجدار الذي حال بيننا وبين أرضنا، فقرّرنا على عجل أن لا نتأخر عنها. ساقتنا محبّتنا المزمنة مسافرين إليها، كعائدين من المنفى. نظراً لوعورة مسالكها يومها، تطلب بلوغ البلدة المحرّرة ساعات. رافقتنا خلالها لقطات الخراب، بما حفلت من ضغط نفسي وعصبي، حيث كانت البصمات التي تركتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في كل زاوية أكبر من تجاهلها، حتى مع علمنا أنها ليست سوى معارك خاسرة. صحيحٌ أن أجسادنا لم تحضر مواقع نُفذت فيها عمليات جهادية ضد الاحتلال، لكننا تجرعنا نصرها في علي الطاهر وسجد والدبشة ومرتفعات إقليم التفاح، كما تجرّعنا ألم المجازر في قانا والمنصوري والنبطية الفوقا حتى القطرة الأخيرة. هذه مشاهد تخجل الذاكرة من نسيانها، حتى تلك الضعيفة. هل من ذاكرة عاقلة تترك صورة جسد طفلة ممزق تسقط منها؟ ذاكرة كهذه تخون صاحبها كما يخون العملاء بلداتهم.
في الطريق أيضاً، مرّت بلدات أخرى عرفت اسمها من نازحات «تدلّين» مع عناقيد الغضب عام 1996 نحو بيروت، وسكنّ في شقق قريبة منّا. كانت النساء مع عائلاتهن، يلتصقن ليلاً بشاشات التلفزيون، لمعرفة الأخبار والنقلات النوعية السريعة التي أخذت المقاومة تحدثها في ذلك الحين. ونهاراً، كان جدار الصوت الذي تُحدثه الطائرات الإسرائيلية يزيد من حرارة حنينهن.
عند بوابة فاطمة كان لا بد من استراحة قصيرة. وصلنا بعد عبور حواجز عدة كان يطلق عليها معابر تفتيش. هي في الحقيقة معابر تحقير، لا يُمكنك وأنت تجتازها إلا أن تتخيّل نفسك تحت رحمة محتل أو عميل. من بعدها وجدنا الناس مستعدين لتسلّق الأسلاك الحديدية مقابل فلسطين المحتلة. ينظرون، ونحن معهم، إلى جنود نالوا قسطهم من الذلّ، ولم نشبع من ذلّهم بعد. ثأرنا كان أشبه بماء لا ينضب. لسوء الحظ، وصلنا إلى مشارف «الضيعة» يومها مع الغروب. «الضيعة» كلمة كانت قد أوشكت على الانقراض من حواراتنا قبل عام 2000، إلى أن ظهرت على السطح مرّة أخرى بصورة مفاجئة. وعلى قدر اللهفة برؤية كل تفاصيلها، هندستها، حجارتها، دكاكينها القديمة، جاءت عتمة الليل التي ألزمتنا الجلوس داخل المنزل، حيث لا كهرباء ولا من يحزنون. أربع أو خمس شمعات أكلنا على نورها «فلافلنا» وكان ذلك ترفاً!
في تلك الليلة، لم أملك سوى خيال خصب يفنّد محيط المنزل جزءاً جزءاً. فكرّت بالسبب الذي دفع جدّتي لوالدي أن تفرض على أولادها قبل عام من التحرير دفع المال لبناء طبقة ثانية وتوسيع البيت، مع أن أحداً منهم لم يكُن قادراً على زيارته! وفكرّت أيضاً بشجرة التين «العملاقة» كما ذكرتها قياساً بحجمي في الماضي، فوجدتها صباح اليوم التالي بانتظاري كأوّل المرحبين. مضت سنين كثيرة، كان الفرح فيها يزداد كلما اندمل مع انقضائها جرح الاحتلال، غير أن يوم زيارة «التينة» لم يكُن يضاهيه شيء، إلا «زهرة». إحدى عجائز العائلة التي أكدت لي أن عمري يوم خروجي آخر مرة من «ميس الجبل» لم يكُن يتجاوز الثلاث سنوات. حاولت المرأة قدر المستطاع استرجاع أي ذكرى تخصّ من لامس للتوّ عتبة منزله لإلقاء السلام والتبريك بتحرير الأرض. تحضر في ذهني صورتها وهي تحمِل في يدها دلّة قهوة تزيد سنواتها عن الأربعين، توارثتها عن والدها وجدّها هي للمناسبة قارئة فنجان «شاطرة»، على ما تقول وهي ومن يعرفها ولأن الحدث ليس كأي حدث، حظي زوّارها بـ«تبصيرة» كعربون تهنئة. القهوة تكفي الكلّ، وللكل نصيب في «الحلوينة». وبين تفسير خطّ وآخر، استعادت زهرة بعضاً ممّا جرى هنا، في ماضٍ قريب انتهى زمنه، وبدأ مع انتهائه زمن آخر «في ذلك اليوم كان هناك إطلاق نار كثيف. هذا المنزل غير المكتمل يملكه عميل فرّ ولم يهنأ به. وهنا نام رجال لا نعرفهم وعادوا في اليوم التالي إلى الأودية حيث القتال». كلام انتزعناه من المرأة، فيما هي تستضيف المزيد من الوافدين إلى دارها على قدح قهوة من بنّها. لم نكّن أول من اقتحم منزلها ذلك اليوم. اليوم الثاني بعد التحرير. جميعنا تنبّه إلى أن «توقعاتها» لم تكُن شخصية، وإنما مشتركة. تكهنّت لنا حينها بالمزيد من الانتصارات. وبعد مرور خمسة عشر عاماً، عرفت أنه ليس لنا أن نستهين برموز القهوة وإشاراتها، ولنا في شهر أيار من الحدود إلى الحدود عبرة!