كثيرون هم الذين فكروا في كتابة «أول شيء» أو «المرة الأولى».أول سفر. أول بيت. أول كتاب. أول فتاة... إلخ. هذه «الأوائل» التي تمضي كلها، لكي تغدو، في الذاكرة، مصدراً للحنين، ومستودعاً للذكريات، وانتباهاً إلى ما كان، وما لن يكون.
وأعتقد أن هناك من يستمتع بتلاوة هذا الماضي الراسخ في محطات عنيدة، فيكتب، كالمؤرخ الحيادي المزعوم، وصفاً للحدث في مكانه وزمانه. ولكن ثمة من لا تمتّعه أبداً هذه التلاوة، لأنها تستحضر، في الذاكرة الانفعالية، لحظة الجمال، أو طعنة البشاعة، كأنما تحدث الآن.

كيف يمكن الحديث مثلاً عن أول حب من دون تلك الرجفة في «بُطين» الماضي، و»أُذين» من كانت ترتّب الوسائد، وتطهو الأحلام. ولم يعد أحد يعرف أين هي، الآن، في بلاد التيه الواسعة؟
كيف يمكن الحديث عن أول سجن، وأول ألم في خاصرة الأمل؟
مع ذلك، سوف نعترف كلنا، كتّاباً وقرّاء، بأننا جميعاً مؤلّفون من الماضي، وأن إقامتنا، كأشخاص مؤقتين في هذا العالم، تطول ليس في التقويم، وشهادة الميلاد، وإنما في اللحظات التي أصبحت ثمينة على نحو ما، في السعادة والانتباه إلى ما ينبغي أن نقدمه للحياة التي قدمت لنا... الحياة. أما الكتاب الأول... فمن الصعب وصف مُتعتين هائلتين في حضن الكتاب الأول: المتعة الأولى، لحظة القبض على ثمن الكتاب. والثانية، ملامسة النسخة الأولى، وتقليب صفحاتها.
أما الإهداءات، فتلك متعة من نوع توزيع الحلوى على المارة، تحيةً لمولود.
كتابي الأول ديوان شعر عنوانه «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة» صدر عن «وزارة الثقافة السورية» عام 1978. معظم قصائد الديوان كتبت في مدينة برلين الألمانية حيث كنت في دورة صحافية لثمانية أشهر. كان دافع الكتابة هو الغربة بالمعنى الساذج، أي التغير المفاجئ في اللغة، ونمط الحياة اليومية، وغياب الأشخاص المألوفين، والأماكن، ونوع البرد، واًيضاً ما تفعله ذاكرة المدينة الألمانية المقسمة إلى شطرين: برلين الغربية، وبرلين الشرقية. وكان التقسيم ــ كما تعلمون ــ بناء على ما يُسمى «خريطة البوط». حيث وصل الجنود الروس من الشرق، وحيثما وصل الأميركيون من الغرب، انتهى رسم الخريطة للعاصمة النازية بعد الحرب، (كثيراً ما تكون حديقة بيت في برلين الغربية والبيت في الشرقية).
الغربة، لقصر المدة، كانت من النوع غير المؤلم أبداً. نحن عائدون إلى بيوتنا في يوم محدد محجوز على الطائرة. ولكنها كانت البروفة التي فتحت الشهية على الدهشة من تفاصيل العالم الواسع. وكانت مليئة بالظلال التي تستدعي المقارنات مع بلداننا المختلفة وأنماط عيشنا وتفكيرنا.
كانت الكتابة ضرورية لي، ثم أصبحت ممتعة لأن زملاء المعهد الصحافي، من بلاد متعددة، كانوا يستمتعون بقراءتي القصائد الجديدة. وكنت أعرف النثر الآتي من ذاكرة المكان وليس من واقعة القصيدة، حيث كان الشعر وسيطاً بين الاثنين.

الديوان الأول فيه الحماسة المتوهجة لقول شيء، وفيه نقص الخبرة في تكوين الانسجام بين ما تقوله وكيف قلته

الديوان الأول، فيه الحماسة المتوهجة لقول شيء، ولكن فيه نقص الخبرة في تكوين ذلك الانسجام بين ما تقوله وكيف قلته. بين الفكرة وجسدها الشعري. لكنه مع ذلك ينطوي على التجرّؤ على لغة الشعر وموضوعاته. وقد كتب الناقد محمد جمال باروت كتابه «الشعر يكتب اسمه» في أول عملية إظهار وتوصيف لما سماه «شعر الحياة اليومية»، مستعرضاً تجربتي في هذا الديوان، مع تجارب نزيه أبو عفش، ومنذر مصري، وبندر عبد الحميد. ولقد كان على غلاف الكتاب مقطع من قصيدة في الديوان،عنوانها «عمي إيفان»: «بياع الورد/ الذي يؤكد أن مئة عشق ممكن/ ومئة يأس ممكن/ ومئة موت ممكن.../ لو، بين صدغيك البائسين،/ وضعت شمساً صغيرة/ وأغنية تنكش بها أسنانك».
وأعتقد، الآن، أن تجربتنا في تلك الأيام كانت «ساذجة». هكذا أرى تجربتي أنا، على الأقل، وذلك لأن الشعر الحديث، عموماً، كان يجرّب ويحاول، في نوع من الاستعلاء على الماضي الشعري، لإنتاج هوية فنية مختلفة. وأنا في هذا الكتاب الأول أمعنت في نثرية قصيدة النثر حتى أصبحت مقطعاً صحفياً. وأعتقد أنني خالفت ما صرت أعتقد به، لاحقاً، وهو ضرورة ملء سلة المهملات بعدد هائل من ورق الكتابة الممزق: «سلة المهملات، والممحاة... أدوات الكتابة».
في قصيدة عن القنيطرة، المدينة السورية المحررة، نأخذ هذا المقطع كشاهد على نثرية النثر.
«وفي كل مرة:/ تهترئ أحجار القنيطرة بالنظرات المشفقة./ وتنتظر ساكنيها القدماء/ تنتظر مجدها القديم، وحياة المنفيين الغرباء/ وحيدة تبقى، كل يوم، في قبضة الليل/ والمراصد… والأمم المتحدة.../ ولم يسكنها أحد سوى:/ بضع دجاجات، وقطط، والمُحافظ».
عندما عرض الدكتور نوفل نيوف تقريره عن الكتاب، كقارئ في هيئة التأليف والنشر في وزارة الثقافه، موصياً بنشره. قال له الأستاذ أنطون مقدسي (مدير الهيئة): عرّفني بعادل.
ذهبتُ. فاستقبلني ذلك الرجل الستيني المبتسم، وتكلم عن ضرورة ألا نجعل الكتاب، أي كتاب قابلاً للرفض. من أجل صفحة ملعونة، أو فكرة ثانوية، أو أطروحة مكتوبة بلغة استفزازية. هذه أيضاً مسؤولية الكاتب، حين يؤمن بتدرج وبطء الوصول إلى المعرفة ونشرها. ذلك لأن حقل الأفكار والجمال ليس مما يفضله رقباء الحكومة دائماً. وبعدها طلب مني، بكل لطف، أن أحذف مقطعاً من «فجاجات» قصيدة سياسية قائلاً:
ــ أن يطبع هذا الديوان أهم من بقاء هذه القصيدة.
الآن مضى على كتابي الأول 37 سنة. وبعده كتبت خمس مجموعات شعرية ورواية وكتباً أخرى... سأتذكر تلك الأيام، أيام الفتوة في عضلات الحياة، أكثر مما أتعلق بما كتبت. تلك الأيام، حين لم تكن بعد قد أكملت هزيمتَها كلُّ خيارات العرب «في الحرب وفي السلام». وحين كان أول كل شيء مبهجاً. كما كان دائماً، أعتقد أن الشعر مؤلف من مواد مؤلمة. ولكنه يُحيل الألم الى نغمة ما في الوجدان. الآن، أكثر من أي عصر، الحب من أهم أدوات الكتابة!
* شاعر وكاتب سوري