أين تكمن أهميّة سعد الله ونّوس؟ ربما كان هذا هو السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه بعد 18 عاماً على غياب ونّوس لنستطيع إعادة قراءة أعماله بعينين جديدتين. يتوازى هذا السؤال مع سؤال آخر لا يقل أهميّة: ما سبب الموقف السلبيّ من ونّوس الذي تشاركت فيه أسماء من السّلطة والمعارضة بعد رحيله، وخاصة في السنوات الأخيرة؟ يتبدّى هذا الموقف السلبيّ على مستويات عدة، ليس أقلّها التهميش المتعمّد لنتاجه، وصولاً إلى تسخيف عمله، أو الهجوم الصريح أحياناً على حياته وأعماله ومواقفه.
لا يتّسع هذا المقال ــ بالطبع ــ للبحث في جميع هذه النقاط رغم أهميّتها البالغة، وخاصة في ما يتعلق بقضايا المعارضة ومعانيها وتعريفاتها، والنقد والإبداع والثقافة؛ ولكن سيسعى المقال إلى التركيز على نقطة لم تُناقش بعد بكليّتها، وخاصة بعد الانتفاضات العربيّة، ومعنى المثقف، ودوره في كل ما يجري.
لعلّ أبرز صفة يمكن أن نلحقها بعمل ونّوس، الإبداعي والنظري، هي المصطلح الذي سكّه ونّوس بنفسه: أي «التسييس». من المفارقة ربما أنّ هذا المصطلح المهم لم يكتسب حضوراً قوياً رغم شهرته الطاغية. تكاد لا تخلو أيّ مناسبة يرد فيها اسم ونّوس دون إلحاق هذا المصطلح به، ومع ذلك لا نجد بحثاً جدياً، أو مريدين حاضرين، للتسييس. ينطلق ونّوس من حقيقة أنّ الطبقة الحاكمة مسيَّسةٌ أصلاً وتعمل ــ في الوقت ذاته ــ على نزع السياسة من حياة المحكومين، لذا شدّد على أنّ أهميّة المسرح (والفن عموماً) تكمن في الرغبة الفعليّة في إعادة السياسة إلى حياة المحكومين كي تصبح الطبقات الشعبيّة مسيَّسةً من جديد، وهو شرط لازم للشروع في أيّ عمليّة تنويريّة. سياسة ضد سياسة، وتسييس ضد تسييس: هذا ما يجب أن تكون عليه المعادلة للانطلاق بمجتمع صحيّ. تتعاظم أهميّة هذا المصطلح في التحوّلات المتعاقبة للمجتمع، وفي التغيّرات التي تصيب جوهر الصراع بين الحاكم والمحكوم، أو بين المحكومين أنفسهم. وتتعاظم أهميّة ونّوس كذلك حين نلاحظ بأنّ سمات عقدي السبعينيات والثمانينيات (وهما العقدان الأهم في تاريخ سوريا خصوصاً) تكاد تتطابق مع سمات السنوات الثلاث الأخيرة على نحو خاص: أي السنوات التي تلي الحركة «الثوريّة». في العمق، لن نجد هذا الفارق بين آذار 1963 وآذار 2011، برغم كون الثاني مضاداً للأول.

لن نجد هذا الفارق بين آذار 1963 وآذار 2011، برغم كون الثاني مضاداً للأول
حين يتم «تمييع الصراعات داخل المجتمع وتمويهها بصراعات أخرى ملتبسة، كأن يتحول ما هو طبقيّ إلى طائفي، وما هو وطنيّ إلى إقليميّ»، سيكون المثقف بالذات هو صاحب المسؤوليّة الأكبر عمّا سيجري في ما بعد، أو ــ بحسب تعبير ونّوس ــ «يجب المرور عبر هذا الخراب ومواجهة ما هو سائد، حتى لو بدونا كأننا نتجاوز مستوى وعي المتفرّج أو نعلو عليه». إذاً، التابو الاجتماعيّ هو التابو الذي يجب كسره أولاً، ومن بعده ستبدو التابوات الأخرى هشّة بالضرورة.
يأخذ كثيرون على ونّوس «استسلامه» أمام هذه المتغيّرات، وتوجّهه إلى عزلة شبه تامة، رغم كونه صاحب التسييس، والمسرحيات التي تحضّ على التغيير بشكل واضح. هنا بالذات وقع كثيرون في فخ الفهم السطحيّ. لم تكن عزلة ونّوس هروباً، بقدر ما كانت فترةً ضروريّة لإعادة التفكير، وجرد الحسابات، والتمهيد لما سيأتي لاحقاً. صمت لا يقل تأثيراً عن الصراخ، بل هو «صمتٌ صارخٌ» رغم المفارقة التي تنطوي عليها هذه العبارة. حين نراجع فترة صمت ونّوس، سنجد أنّه توقّف فيها عن الكتابة الإبداعيّة تحديداً، بينما استمر أو أطلق مشاريع أخرى لا تقل أهميّة عن النتاج الإبداعيّ. ظهر المسرح التجريبيّ في سوريا للمرة الأولى على يد ونّوس والراحل فوّاز الساجر؛ شهدت فصليّة «الحياة المسرحيّة» أزهى أيامها على الإطلاق، وأعاد ونّوس قراءة التاريخ تحضيراً لأعمال مسرحيّة بعد عقدٍ كامل، ستكون هي أفضل ما كتبه، وخاصة «منمنمات تاريخيّة»، و«طقوس الإشارات والتحوّلات»، وعمله السرديّ الوحيد «عن الذاكرة والموت».
في فترة الصمت هذه التي كان سببها الأول (بعيداً عن الأسباب السياسية العامة) «استرداد «لا» المقموعة»؛ هذه الـ»لا» التي تعني «لا لـ»نعم»، ونعم هي التعريف السلطويّ للمواطن العربيّ من المحيط إلى الخليج»، قام ونّوس بإجراء عملية نقد ذاتيّ في المشهد الثقافيّ العربيّ بلا استثناء. لم تكن عملية النقد هذه مشابهةً لحالات «الردّة» التي روّج لها كثيرٌ من المحسوبين على اليسار بداية التسعينيات، بل كانت الفترة الضروريّة لصقل الأفكار الوطنيّة والتقدميّة كي تتم إعادة طرحها بأسلوب مغاير. هذا ما وجدناه في السلسلة المهمة «قضايا وشهادات» التي أطلقها ونّوس مع عبد الرحمن منيف وفيصل دراج (ثم جابر عصفور)، وهذا ما لاحظناه بقوّة في التغيّرات الضخمة التي لحقت بأسلوب ونّوس في الكتابة. لم يتخلّ ونّوس عن الأيديولوجيا التقدميّة (لا بأس هنا من التأكيد على هذه المصطلحات «الخشبيّة»)، بل ألبسها حلّةً جديدة لم تنتقص من جرعة التقدّم، بل أضفت عليها نزعة جماليّة كانت غائبة عن أعمال ونّوس الأولى. تخلّى ونّوس عن «الربط بين الفعاليّة الإبداعيّة والفعاليّة السياسيّة» بمعناها المباشر، ليؤكّد أنّ «العمل الذي يشفّ عن جماليّة جديدة يوازي الآن في أهميّته عملاً يجيش بالمقولات السياسيّة الصادحة».
بعد فترة الصمت التي كانت (وأصبحت الآن) ضروريّة، أصبح سعد الله ونّوس أهدأ، وتناسى أعماله القديمة، لا بمعنى التخلّي عنها، بل للانطلاق بأعمال أخرى لا يكون همّها أن «تُكتَب لمرّة واحدة... وإما أن تنتهي بتظاهرة أو تنتهي إلى عمل مسرحيّ عادي ثم تُطوى»، كما هي عليه الحال مع «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»؛ أعمال تبدأ بالصمت وتنتهي ربما بالصمت، ولكنّها ستبقى مفتوحةً دوماً على آفاق جديدة، وقراءات متعدّدة، ودلالات متنوّعة، كما يُفترَض أن يكون عليه الفنّ الحقيقيّ.