بغض النظر عما إذا أعلن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون للرئاسة، وعمّا إذا وصل الأخير فجأة الى معراب لوضع اللمسات الأخيرة على المفاوضات الثنائية بينهما، حول رئاسة الجمهورية، فإن عون وجعجع أثبتا، في الأيام الأخيرة، أنهما قادران على تعطيل أي محاولة لاستفرادهما، أو القفز فوقهما، وأنهما وحدهما من القيادات المسيحية السياسية والروحية اللذان قد يتمكنان من إحداث خرق جدي في هذا الملف. فيما الخاسر الأكبر في كل ما يجري هو رئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
وبحسب معلومات "الأخبار"، تواصلت المفاوضات الجدية بين عون وجعجع، في شكل حثيث في الأيام والساعات الأخيرة، مباشرة وبالواسطة، فزار النائب ابراهيم كنعان معراب والتقى بجعجع مطولاً، فيما زار موفد جعجع الى الرابية، ملحم الرياشي، عون في حضور الوزير جبران باسيل وكنعان، الى جانب الاتصالات المكثفة والمستمرة بين هؤلاء. المفاوضات الثنائية التي تعمقت بعد لقاء باريس والتسوية التي حاول الحريري تسويقها بترشيح النائب سليمان فرنجية، باتت تتركّز على الملف الرئاسي، بعدما رسمت ورقة إعلان النوايا مساراً جديداً في العلاقة بينهما، وبات الحديث عن هذا الملف من دون مواربة، بل بصراحة وبحوار مكشوف.
"تسوية باريس" التي أفشلها عون وجعجع، وضعت أمامهما تحديات كثيرة في مقاربة ملف الرئاسيات الذي دخلت عليه عوامل عدة بعدما انكشفت أوراق أطراف داخلية وسياسيين تموضعوا الى جانب الحريري في تسويته، إضافة الى الموقف العلني لحزب الله من بكركي ليس لجهة رفض التسوية الحريرية فحسب، وإنما أيضاً بالتمسك بترشيح عون وحده.

رئيس قريباً أو شغور طويل

كل هذه المعطيات كانت في صلب مفاوضات الطرفين وسط كم من الأسئلة والمشاورات حول كل ما يتعلق بالرئاسيات وبمستقبلها وحيثياتها وشروطها ومواقف القوى الأساسية منها. وبحسب معلومات "الأخبار"، فإن ما تحقق حتى الآن يعد خرقاً مهماً، يفترض إذا استمر على هذه الحال أن يتوّج بزيارة عون لمعراب. ويعوّل العاملون على خط الاتصالات على ألا تكون الزيارة شكلية، بل أن تكون بمثابة تتويج لما يدور بينهما على الصعيد الرئاسي، إذ لا يمكن وضع أي اجتماع بين عون وجعجع في هذه المرحلة تحت خانة لقاء سياسي عادي، أو موازاته بلقاء الرابية بينهما الذي جاء تحت عنوان ورقة إعلان النوايا وطي صراع عمره ربع قرن. لقاء معراب المتوقع له عنوان وحيد هو ملف رئاسة الجمهورية، لأن الطرفين يدركان أنه في ظل التشنج الإقليمي الحاد حالياً، قد تصبح رئاسة الجمهورية في لبنان في خبر كان، وقد ينهي الشغور الرئاسي عامه الثاني من دون أن تكون الدول المعنية راغبة في التدخل لصالح انتخاب رئيس جديد. من هنا أهمية الاتصالات بينهما واحتمال عقد اللقاء الثنائي، بعدما باتت رئاسة الجمهورية في خطر، ولأن المسيحيين مهددون بفقدان دورهم في تحريك عجلة الرئاسيات.

الحريري الخاسر الأكبر
خسر الحريري علاقته بطرفين مسيحيين أساسيين، سواء رشح جعجع عون أو لم يرشحه

وإذا كان من الطبيعي أن تثير المعلومات عن احتمال لقاء عون وجعجع جلبة في الأوساط السياسية التي تواكب الرئاسيات، وسط تساؤلات عن إمكان أن يرشح جعجع عون رسمياً، وانعكاسات هذا الترشيح على قوى 8 و14 آذار، فإن الأكيد أن ما خلصت إليه المفاوضات الرئاسية في الأسابيع الأخيرة أسفرت عن نتيجة واحدة: خسر الحريري جعجع بعدما كان قد خسر عون، وهو أصلاً خاسر لحزب الله، ويزداد التشنج بينهما ولا سيما في ظل تدهور العلاقة السعودية ــ الإيرانية.
ومن يطلع على الأجواء الحقيقية لمعارضي التسوية الحريرية في أوساط القوات وقوى 14 آذار، يدرك تماماً أن الأمور بين الحريري وجعجع لا يمكن أن تصطلح في وقت قريب، لأن القواتيين يشعرون بأن هناك من طعنهم في صميم خياراتهم، ليس فقط لجهة اختيار الحريري فرنجية، وإنما أيضاً لإقصاء القوات عن المفاوضات، ولتعمد الحريري بعد إعلان القوات رفضها الواضح، استمراره السير بها وتأكيده تمسكه بترشيح فرنجية. فشل الحريري ومستشاروه فشلاً كبيراً في تسوية أطاحت التحالفات التي كان يبنيها مع القوات داخل قوى 14 آذار، علماً بأن معراب كانت الطرف الأكثر حضوراً في مواجهة 7 أيار التي ذكّر بيان كتلة المستقبل الأخير بها. ولم يكتف الحريري بالارتداد على القوات يوم وافقت على مشروع اللقاء الأرثوذكسي، بل ارتد عليها مرة أخرى بتسويق خصم جعجع الشمالي والمسيحي والرئاسي. خسر الحريري في تسويته الباريسية القوات، ولا ينتظر أن تعود الأمور الى مجاريها بينهما، رغم إصرار الطرفين إعلامياً على نفي أي توتر. وفي حين تؤكد القوات، بحسب مصادرها، أن لا رئيس للحكومة إلا الحريري مهما كانت هوية الرئيس الجديد، لا يفوّت المستقبل مناسبة إلا يصوّب على ورقة إعلان النوايا ويعلن استياءه الشديد من علاقة جعجع بعون واحتمال أن يعلن ترشيحه، وتداعيات ذلك على العلاقة بينهما.
وبحسب أحد السياسيين، فإن الحريري يخطئ للمرة الثانية في التصويب على القيادات المسيحية. فرئيس الحكومة السابق الذي سبق أن حاور عون في ملف الرئاسيات، وتذرع لاحقاً بأن وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل هو من رفض الإتيان به رئيساً للجمهورية، كان يمكنه في ظل الاشتباك الحالي بين السعودية وإيران أن يرتاح لوضعه رئيساً للحكومة، وفي تحييد لبنان عن التوتر الإقليمي، وتثبيت الاستقرار الداخلي، لو كان حواره أدى الى الإتيان بعون رئيساً قبل عام، بدل أن يفتش المستقبل اليوم عن ذرائع لتثبيت الاستقرار وتحييد لبنان، وحتى عن وسائل لاستمرار الحوار مع حزب الله. إلا أن الحريري، على العكس من ذلك، راكم خلافاته مع عون بعد فترة سماح غضّ الأخير خلالها النظر عن كثير من الخلافات بينهما وقدم له تسهيلات في مجلس الوزراء. والعونيون اليوم باتوا في مقلب آخر مع الحريري، وما يقولونه بعد تسوية باريس لا يقل شأناً عما كانوا يقولونه قبل الهدنة السابقة.
يحاول عون وجعجع اليوم مجدداً فتح ثغرة في الملف الرئاسي، ويسعى الحريري بدوره الى التفتيش عن مخرج مشرّف لتسوية فاشلة. رشح جعجع عون أم لم يرشحه، فقد خسر الحريري علاقته بطرفين مسيحيين أساسيين. ولم يبق له من حلفاء في الداخل سوى النائب وليد جنبلاط الذي سبق أن تخلى عنه يوم أتى بخصمه الرئيس نجيب ميقاتي على رأس الحكومة، والرئيس نبيه بري الذي يعرف في اللحظة المناسبة كيف يخرج من شباك أي تسوية يدرك أنها فاشلة، ويسير في تسوية أخرى يرى حزب الله أنها ملائمة.