ربما سيبدو أيّ حديث عن جوائز الرواية العربية لزوم ما لا يلزم. ستبقى الحمّى على ما هي عليه كل عام، بل ستتعاظم مع ازدياد الجوائز الخاصة بالرواية. لعل الانطلاقة الأمثل للدخول في هذه الدوّامة تكمن في عبارة قد تبدو هي الأخرى «لزوم ما لا يلزم» بحسب معظم المتابعين والقائمين على هذه الجوائز. لكن رغم هذا (أو بالأحرى بسبب هذا بالذات) ينبغي تأكيدها وتكرارها دائماً، أي: إعادة تعريف البديهيات. منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بدأت حمّى الرواية التي ترافقت مع تهميش للأجناس الأدبية الأخرى، بخاصة القصة القصيرة.
صار حلم أي كاتب أن يدخل عرش «المكرَّسين» بين الكتّاب، أي الروائيين، بحيث بدت مسيرة أي كاتب لم يكتب الرواية كأنها ناقصة أو عليلة. بعيداً عن تقييم جودة النتاج الروائي العربي، بدا الكمّ مرعباً. لا مبالغة لو قلنا إنّ الغالبيّة العظمى من الكتّاب تحوّلوا، كلياً أو جزئياً، إلى الرواية، ليرسّخوا - عمداً أو غفلةً - المقولة المكرورة بشأن «زمن الرواية».
تعاظمت الورطة على نحو أكبر حين دخلت الرواية بازار الجوائز، ابتداءً من الجوائز الخاصة بمخطوطات الكتّاب الشباب («جائزة الشارقة» أو «جائزة سعاد الصباح» مثلاً)، وصولاً إلى الجوائز الاحتفائيّة («جائزة الرواية العربيّة» في القاهرة)، وجوائز الرواية المنشورة («بوكر» و«نجيب محفوظ»)، والوافد الجديد المغوي إلى عالم الجوائز «كتارا».

حاولت هذه الجوائز
بمعظمها تقليد الجوائز
الغربيّة دون نقل روحها
الحقيقية
بالطبع، لا يمكن بحالٍ تقييم كل هذه الجوائز، لكن بوسعنا تحديد العلل المشتركة التي تسم هذه الجوائز بكليّتها: حاولت هذه الجوائز بمعظمها تقليد الجوائز الغربيّة دون نقل روحها الحقيقية. بمعنى آخر، تقوم معظم الجوائز الغربية والدولية على أساس مهم يتمثّل في منح الجائزة لأفضل عمل سردي، أي لا يُشترط أن يكون العمل روائياً بالضرورة. صحيح أنّ حظّ القصة القصيرة لم يكن كبيراً في تلك الجوائز، ولكنها ليست مقصاةً بذاتها كما في الجوائز العربيّة. إذ وصلت مجموعات قصصية إلى اللائحة القصيرة في جوائز، كمجموعة «الخادمة المتسوّلة» (أو «من تظنّ نفسك؟») للكنديّة أليس مونرو إلى لائحة «مان بوكر» القصيرة عام 1980، ونالتها مجموعات في جوائز أخرى، مثل مجموعة «مترجم العلل» للهنديّة جومبا لاهيري التي نالت جائزة «بولتزر» عام 2000. أما الجوائز العربيّة فقد فرضت شرطاً إقصائياً بشأن القصة القصيرة، لنكون أمام احتمالين: إما أنّ أصحاب الجوائز لا يعترفون بالقصة القصيرة كجنس سردي، أو أنّهم يعتبرونها كتابة من الدرجة الثانية أو العاشرة ربما مقارنة بـ «الملكة» الرواية.
لم تظهر نتائج «كتارا» بعد، ولذا سيبدو من المجحف الحديث عنها، ولكن تكفينا معرفة أنّ مئات المخطوطات والروايات تقدّمت إلى الجائزة لندرك بأنّنا أمام متاهة فعليّة تهنا فيها قبلاً مع جائزة «بوكر» العربية، مع أنّ الأخيرة ستبدو متاهة أصغر إذ لا يتجاوز عدد الروايات التي تدخل التنافس 180.
أما السؤال المهم «متى قرأ المحكّمون هذه الأعمال؟» فلا يزال إلى اليوم ــ رغم مرور ثماني سنوات على «بوكر» ـ من دون إجابة واضحة. لن نكرّر هنا «الاتهامات» التي وجّهها كثيرون لهذه الجائزة بشأن آلية اختيار اللائحتين الطويلة والقصيرة، أو مبدأ تداول الجائزة بين الدول العربية كأننا أمام جامعة عربيّة أخرى، لكن يكفينا هنا تجاهل القائمين على هذه الجائزة لجميع الانتقادات الموجّهة إلى الجائزة لندرك بأننا أمام لعبة دكتاتورية أخرى لا نملك فيها سوى الإذعان، بخاصة أنّ معظم الروائيين كالوا المديح للجائزة برغم آلياتها الغامضة، أو اكتفوا بالصمت كي لا يفقدوا نصيبهم من الكعكة في دورة مقبلة. ثمة ملاحظة أخرى تسم الجائزة أنّها تجرّأت عام 2011 ومنحت الجائزة مناصفة لروايتين، دون أن تجرؤ بعد على حجب الجائزة والاكتفاء بلائحة قصيرة أساسية أو لائحة أقصر دون فائز، رغم المستوى الهزيل لروايات معظم دوراتها. بدا الأمر أمام أي مراقب خارجي، كأنّ هذه النتيجة تعني بأنّ النتاج الروائي العربيّ هزيل برمّته، إذ تواطأ القائمون على الجائزة والناشرون (لن ننسى هنا التذكير بأنّ ثمة من يشغل مقعداً دائماً في مجلس إدارة الجائزة رغم كونه أحد الناشرين الأكثر حظوة بترشيح رواياته في الجائزة) والنقّاد، بل حتى القرّاء، ليكرّسوا تلك النتيجة الخاطئة القائلة إنّ «بوكر» هي الرواية العربيّة، والرواية العربيّة هي «بوكر».
لا يمكن إنكار حقيقة أنّ «بوكر» بالذات أتاحت لنا التعرّف إلى نتاجات كانت إلى وقت قريب مهمَّشة لدى الناشرين، بخاصة النتاجات الجيّدة للمغرب العربي والسودان، أو أنّها أفسحت في المجال للكتابة الجديدة بعيداً عن الكتّاب المكرّسين، رغم عدم دقة هذا التمييز، لكنها كانت - في الوقت ذاته - السبب الأبرز في رسم خريطة زائفة للمشهد الروائي العربي، بخاصة حين أقدمت أحياناً على مخالفة شروطها لتمنح الجائزة للروائيّ لا لروايته، أو حين روّجت بحماس لقضية تزايد عدد الروائيات بحيث كرّست مبدأ جنس الكاتب كمعيار للتقييم، أو حتى عندما ضخّمت من قيمتها بتبنّي اسم رنّان «الجائزة العالميّة للرواية العربيّة» دون أن نلاحظ زيادةً فعليّة في حضور فائزيها في المشهد العالميّ. في المحصّلة، ربحت الجائزة والناشرون وبعض الكتّاب، وخسرت الرواية العربيّة قدراً كبيراً من أهمّيتها عندما تحوّلت إلى سلعةً في بازار.