يُذكَر المفكرون بما خلفوه من «آثار» (traces). لست أعني أساساً أعمالهم ومآثرهم (œuvres) والمؤلفات التي حفظها التاريخ لهم، وإنما المعالم التي رسموها، والقطائع التي خلفوها، والانفصالات التي أقاموها، والشروخ التي أحدثوها في تاريخ الفكر. كلما شكل المفكر لحظة انعراج، ازدادت أعماله قيمةً في الميدان الذي اقتحمه. من هنا الأهمية الكبرى التي تتخذها القيمة المنهجية لعمل المفكر، تلك القيمة التي تجعل الفكر ما بعده مخالفاً لما تقدمه منفصلاً عنه.
من هذه الوجهة، نريد أن ننظر إلى أعمال محمد عابد الجابري في الذكرى الخامسة لرحيله، فنتساءل عما كان لتلك الأعمال من دور في الفكر العربي المعاصر، وما قد تكون رسمته على ذلك الفكر من قطائع، وما أفادته به من الوجهة الإبيستمولوجية.
لا نقصد هنا مطلقاً التذكير بما سماه هو «دروساً في الإبيستمولوجية»، وإنما التساؤل عن الدور المنهجي الذي كان لتدخلاته في الجدال الفكري الحادّ الذي طبع العقود الأخيرة من القرن الماضي. لا ينبغي أن نفهم من ذلك مجرد عودة إلى ما سبق أن قاله لتلخيص مجمل المواقف التي اتخذها، والإشكاليات التي بلورها، والأفكار التي توصّل إليها، وإنما أيضاً، وربما أساساً، محاولة رصد القضايا التي امتنع عن الخوض فيها، والموضوعات التي تجنّب طرقها، والمفهومات التي تحاشى استعمالها.
ها هنا تواجهنا حزمة من المفهومات التي كان يروّج لها بعض الذين حاولوا تطبيق المنهج المادي الجدلي على دراسة الفكر العربي الإسلامي، والتي بذل الراحل كل جهوده لمقاومة ترويجها وتوظيفها واعتمادها أسلوباً في الدراسة. ولعل أهم تلك المفهومات، مفهوم الانعكاس، أو الوعي الانعكاسي (la conscience réflexive).
ما زالت تعلق بأذهاننا الانتقادات التي كان الجابري يوجهها لأولئك الذين كان يأخذ عليهم سعيهم إلى نقل ما دعاه «ماركسية مطبقة» لإسقاطها على الفكر العربي. ولعل ذلك ما سمح له أن يهتم، لا بما كان يسمى بنية تحتية غالباً ما كانت تكتفي برسم خطاطة مشوَّهة للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية، وإنما بحصر دراساته في المنتوج الفكري، وجعلها تنصبّ أساساً على التراث العربي الإسلامي، بهدف تملّكه والحفر في أساسياته.
هذا الحفر في الأساسيات جعل الجابري يحاول أن ينفلت لا من قبضة ماركس وحده، بل حتى من «قبضة» هيغل، والخروج عن «الزمانية الهيغلية» واعتناق المنهج الجينيالوجي. من هنا انفتاح صاحب «تكوين العقل العربي» على المفهوم الأركيولوجي عن تاريخ الفكر، وجعل مشروعه في «نقد العقل العربي» يضم شقيّن ساكروني ودياكروني، أو كما كتب، بنيوي وتكويني. ها هنا حاول الجابري أن يكون مؤلفه ليس تأريخاً للعقل كمنتوج، كأفكار وكمعرفة، وإنما محاولة لإقامة أساسيات المعرفة العربية، ومتابعة الكيفية التي ترسخت عن طريقها «أصول الفكر العربي»، أي «طرق في العمل والانتاج وأساليب في الاقناع ومقاييس للقبول والرفض». من هنا ذلك التوظيف الذي يبدو جديداً، لا عند الجابري وحده، وإنما في الفكر العربي المعاصر بإطلاق، وأعني ذاك الذي وظف به الجابري مفهوم «الأصل»، لا من حيث هو بداية زمنية، وإنما من حيث هو ما يعطي للبداية معناها كأصل. ويكفي أن نذكر هنا ما قاله عن العصر الجاهلي حينما أكد أن بنية العقل العربي تشكلت في ترابط لا مع العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد البعثة: العصر الجاهلي بوصفه زمناً ثقافياً تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي يفرض نفسه تاريخياً كإطار مرجعي لما قبله وما بعده. لعل هذا التّوظيف الجديد للمفهوم الجنيالوجي للأصل هو الذي سمح لصاحب «نقد العقل العربي» أن يعيد النظر في جدلية «الأنا والآخر»، وفي مفهومَي الدخيل والأصيل، وذلك عندما اعتبر ما كان يسمى موروثاً قديماً، «أي ذلك الخليط من العقائد والديانات والفلسفات والعلوم التي انتقلت الى الدائرة العربية الاسلامية عبر الفتوحات»، اعتبره جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية، الأمر الذي جعله ينظر الى ما يسميه «العقل المستقيل»، ليس كمؤثر خارجي، أو كمعين أدخله الى الثقافة العربية أولئك الذين أرادوا القيام «ضد تزمت الفقهاء وجفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين»، وإنما من حيث هو أصل من أصول الثقافة العربية ظهر، كما يؤكد الجابري، «قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء ونظريات المتكلمين الى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل».
هذا الهروب من كل نزعة ماركسية مبتذلة، وتلك المحاولة لإقامة «أساسيات المعرفة العربية»، وهذا المفهوم المغاير لجدلية «الأنا والآخر»، وذاك المفهوم المغاير عن الزمان التاريخي، كلّ ذلك يجعلنا نشعر أننا أمام محاولة لإحداث انفصال في الفكر العربي، والخروج بالدراسات العربية الإسلامية من أسر المناهج التقليدية، فهل يتعلق الأمر فعلاً بانعراج؟ وهل تمكن الراحل من الانفلات الفعلي من «القبضة الهيغلية» بكل تنويعاتها عند اقتحامه لمشروعه الضخم في نقد العقل العربي؟ إذا تذكرنا كل محاولات الانفلات من تلك القبضة التي عرفها الفكر المعاصر، غربيِّة وعربيِّة، وما تمخض عنها، فربما يكفينا أن نسجل أن مجرد محاولة الانفلات هذه كانت بحدّ ذاتها تجديداً فكرياً، بل وتحديثاً للفكر العربي.
* كاتب ومفكر مغربي