«دزّيت لهل همّي يهمّه، رماني الدهر وأريد يمّه»، «صبَرنا على الجور الليالي، صَبْر العبيد على الموالي»، مقطعان من البكائيّات التي يزخر بها تراث دير الزور الغنائي. ربّما كانت مصادفةً أنّ هذا التراث ضمّ فنوناً من الغناء تشي دلالاتُ تسمياتها بمضامينها، مثل: النّعي، والنّدب. أو ربّما كان تراث المدينة يُهيّئ لها ما يليق من البكائيّات لزمن شبيه بالذي تعيشُه اليوم.

الخروج من «الجحيم»
قبلَ أيّامٍ وصلَ محمّد (اسم مستعار) إلى إحدى مناطق سيطرة الدولة السوريّة قادماً من المدينة المُحاصرة. أمام مائدة إفطار تقليديّة يضحكُ الشاب، ويقول لعائلة شقيقه: «لا تاكلوا، انتظروا شوي، أريد أن أتأمّل. من زمان ما شفت كل هالأصناف مجتمعةً بمكان واحد». والأصناف المذكورة ليست سوى جبنٍ وزيتون وزيت وزعتر ومكدوس. حسّ الدعابة الذي يتحلّى به الشاب يجعلُ من المآسي التي يرويها مادةً صالحة للتندّر أوّل الأمر، لكنّك لن تلبث بعد صمت قصير أن تعي سواد الصورة. قبل الدخول في حديث الحصار وأهله، نسأل عن الطريقة التي مكّنت الشاب من مغادرة «الجحيم». فالطرق البريّة تودي إلى مناطق سيطرة «داعش»، ولا سبيل إلى الخروج الآمن إلّا جوّاً، وأبناء الأحياء الخاضعة لسيطرة الدولة السوريّة لا يستطيعونَ المغادرة (برّاً أو جوّاً) إلا بموجب موافقةٍ أمنيّة. حصلَ الشاب على الموافقة اللازمة مثله مثل آخرين، والطريقةُ ليست لغزاً أو تعويذة، ثلاثمئة ألف ليرة سوريّة (نحو 800 دولار) كانت بمثابة «افتح يا سمسم». يضحك الشاب، ويوضح أنه محظوظ، فقد يتطلّب الأمر في بعض الحالات 400 ألف، وانتظاراً طويلاً. في حالته استغرق الأمر أسبوعاً «أعطوني رقمَ وسيطٍ موثوق، تحدّثت معه، اتفقنا على المبلغ وأعطيتُه اسمي الثلاثي. بعد ثلاثة أيام اتصلوا بي وقالوا: تعال استلم موافقتك» يقول. ويضيف: «بعدها اتصل بي شخص علمت أنّه الطيّار الذي سيقلّني، اتفقنا على موعد بعد يومين، وذهبتُ إلى المكان المحدد. كان اسمي موجوداً ضمن لائحة على الباب، وبعد ساعتين جلستُ في المروحيّة مع آخرين، استغرق الأمر أقلّ من ساعة لنجدَ أنفسنا في القامشلي». بعد ذلك تصبحُ الخيارات كثيرة، وأسلمُها شراء تذكرة عبر الخطوط السورية إلى مطار دمشق أو باسل الأسد (اللاذقية).
ثلاثمئة ألف ليرة سوريّة كانت بمثابة «افتح يا سمسم»

قبلَ الحصار
الحصار الذي يفرضُه تنظيم «داعش» والذي أوشك أن يدخل عامه الثاني كانَ أشبه بنكتة سمجة أوّل الأمر. وحتى في الفترة التي سبقته، فإن قوافل المعونات لم تعرف طريقها إلى المدينة كما يجب، بسبب خروج معظم مناطق الريف المحيطة عن سيطرة الدولة السوريّة. كانت المنظمات الانسانيّة الراغبةُ في إيصال معونات إلى المدينة تصطدم بصعوبات كثيرة على رأسها تعذّر التنسيق مع كل المجموعات المسيطرة. وفي معظم الأحوال كان الشرط المتّفق عليه بين معظم المجموعات هو «إغراق الريف بالمعونات، قبل إرسال أي شيء إلى المدينة». للفساد في طريقة توزيع المعونات التي كانت تصل نصيبٌ كبير أيضاً من الحكاية. وكما يحصل في كثير من المناطق السوريّة، فإنّ مستحقّي المعونات هم الحلقة الأضعف، والفئة الأقلّ استقبالاً للصناديق.

استعداد للحصار؟
لم يأت الحصار بغتةً. كانت المعارك تشتدّ تدريجاً في دير الزور، وسط استماتة «داعش» في محاولات السيطرة عليها. عزّز الجيش السوري دفاعاته في عدد من الأحياء، وفي المطار، واللواء 137. في الفترة نفسها بدأت البضائع تختفي من الأسواق. فُرض الحصار في كانون الثاني الماضي، وبالتزامن عادت البضائع لتغزو الأسواق بأسعارٍ مُضاعفة، وليثبت التجّار مجدداً براعتهم في إدارة لعبة الاحتكار. شهدت المدينة تغييرات أمنيّة، ثمّ باتت مغادرتُها بحاجةٍ إلى موافقةٍ خاصّة من دون معايير واضحة. وخلال الأشهر التسعة الأخيرة انخفض تعداد السكّان من نحو 300 ألف إلى قرابة 150 ألفاً، فيما غادر الآخرون بعد الحصول على الموافقات اللازمة عبر طريقتين لا ثالث لهما: واسطةٌ «وازنة»، أو سمسارٌ «شاطر».

الحياة على جناح «إليوشن»
مع اشتداد الحصار باتت طائرة إليوشن العملاقة (طائرة شحن عسكرية) الوسيلةَ الوحيدة لدخول المواد الغذائيّة إلى مدينة دير الزور. ودأب بعض التجار على استئجار الطائرة المذكورة من وزارة الدفاع السورية، وبتكلفة تقارب ثلاثين ألف دولار للنقلة الواحدة. لم تنقطع البضائع في تلك الفترة من الأسواق نهائيّاً، بل كانت تغيبُ وتحضر بشكل «مدروس» على مقاس التجّار والسماسرة، مع تصاعدٍ مستمرّ وهائل في الأسعار. وصل سعر كيلو البصل مثلاً إلى 3000 ليرة، والسكّر إلى 6000، الشاي إلى 14000... وهكذا. سعت بعض المنظمات إلى إيصال المعونات عبر الطريقة ذاتها، وعقدت الاتفاقات اللازمة، وبعد نقلاتٍ معدودة توقّف الأمر لأسباب مجهولة. في الشهور الأخيرة باتَ هبوط الطائرة العملاقة في مطار دير الزور محفوفاً بالمخاطر، بسبب تقدّم «داعش» في محيط المطار وسيطرته على مناطق تمكنه من استهدافها.

مدينة «الأرواح»!
مع تسجيل الأسعار أرقاماً فلكيّة وشحّ المواد، وانعدام المقدرة الشرائيّة عند السكّان، بدأ السوق يشهدُ أصنافاً جديدة وغريبةً من البضائع، وهي «الأرواح»! والأخيرة عبارة عن مساحيق بألوان ونكهات مختلفة، تروّج بدائلَ لبعض الأطعمة وتباع بالغرامات. فسعر الغرام الواحد من «روح السكّر» 100 ليرة، وروح البندورة بين 150 و200، ثمّ تعرّف الناس إلى روح الجبنة، وروح البيض... إلخ. المفارقة أنّ هذه المواد بدورها لم تنجُ من الغش، وصارت تُخلط بمكوّنات غريبة مثل الجبصين، والنشاء! وعلى مبدأ «الحاجة أم الاختراع» عرفت المدينة أنواعاً جديدة من الأطعمة، صار بعض السكّان مثلاً يقلون اللفت عوضاً عن البطاطا، فتنبّه التجّار وزادوا سعر السلعة. واخترع آخرون «كباب االعدس» حيث يُطحن العدس ويُعجن، ويُخلط ببعض المنكهّات ثمّ يُشوى، فزاد سعر العدس. كذلك، صار من المألوف اعتماد أبناء المدينة على دواء «السكّرين» لتحلية الشاي، لا لأسبابٍ تتعلّق بـ«الدايت» بل لأنّ سعر الحبّة الواحدة 5 ليرات، وهي تكفي لمنح إبريق صغير قليلاً من الطعم الحلو. وكان للمدينة مع الشاي والسكّر حكاياتٌ كثيرة. أحد أصحاب المقاهي باع سيّارته مقابل كيس ونصف كيس (حجم كبير) من السكّر. وطبعاً، إنّ ارتياد المقاهي بات حكراً على فئة محدودة من الناس، خاصة أن كيلو الشاي الواحد يُباع حاليّاً بـ 18 ألف ليرة، «وما حد يشتري بالكيلو، بالغرامات الله وكيلك» يقول محمّد. ومع انقطاع التيار الكهربائي كليّاً منذ أكثر من عام، امتهن البعضُ «شحن البطاريات». انتشرت مولداتٌ يوفّر أصحابها خدمة شحن الهواتف النقّالة مقابل 100 ليرة في الساعة الواحدة، ومع ازدياد عددها وانتشار «التنافسيّة» صار شحن البطاريّة كاملاً بـ100 ليرة، وراح البعض يقدّم عروضاً من قبيل «اشحن موبايلين والثالث مجّاناً».

على شفا الموت
القول إن معظم سكان المدينة باتوا على شفا الموت ليس نوعاً من المبالغة. البعضُ ما زال محظوظاً بتلقيه مبالغ مالية من أقارب خارج المدينة، تصلهُ بصعوبة. موظفو الدولة ما زالوا يقبضون رواتبهم بصعوبة، ولكن ما الذي تجديه رواتبُ متوسطُها 20 ألفاً في مدينة يباع كيلو الجبن فيها بـ7500، وعلبة الحلاوة بـ 5500، وعلبة «الطون» بـ1500؟ لا يستغرب أبناء المدينة أنّ التجّار ما زالوا قادرين على إدخال البضائع. يمكنك حتى اليوم العثور على كل ما يخطر ببالك، لكنّ السواد الأعظم لم يعد قادراً إلا على مراقبة السلع بحسرة. ولا يتفاءل السكان بفك قريب للحصار، أو عودة طائرة إليوشن، فالنتيجة المُنتظرة قيام التجّار بجلب مزيد من البضائع بأسعار فلكيّة، في وقت خلت فيه معظم الجيوب. وكنتيجة طبيعية ازدادت حالات السرقة، و«التشليح المُسلّح»، وكذلك راج سوق الدعارة. «قبل ما أطلع بأسبوع سمعت واحد يقول لرفيقو: حصّلت ضرب بيجنن بربطتين خبز»، يقول محمّد قبل أن يخيّم صمت طويل.




البائع سيّداً
الباعة هم سادة الموقف في ظل الحصار. كثيرة هي القصص التي تُروى في هذا السياق من طرق تعامل هؤلاء مع السكان. ومنها أنّ مراهقاً جاء إلى السوق في أحد الأيام ومعه «كروزين دخّان حمرا». التفّ الزبائن من الرجال حول المراهق الذي أعلن شروطه: «الوقوف بالطابور، السيكارة بـ75 ليرة، ولكل زبون سيكارتان فقط». لكنّ الزبائن تزاحموا حوله بطريقة أثارت حفيظتَه، فقام بكيل الشتائم لهم، قبل أن يعلن: «السيكارة صارت بـ100 ليرة، وإذا ما وقفتو متل البشر ما عاد بيع». في تموز الماضي حاولت مؤسسة التموين إجبار باعة اللحوم على التزام السعر النظامي: 2500 ليرة للكيلو الواحد. فامتنع هؤلاء ببساطة عن البيع، وأغلقوا محالّهم، وبعد أيامٍ أعادوا فتحها ليبيعوا بسعر 6500 ليرة، من دون أن يعترض أحد.