أشعر بأنني أختنق. أفتح شاشة التلفاز، فيزيد اختناقي. أفتح هاتفي، وأتصل بصديقي، فيخبرني بأنه منزعج هو الآخر من الأخبار التي تلقاها. أدعوه للخروج. هناك، كلانا سيخترع أحاديث، نبتعد فيها قليلاً عن الأخبار وما يجري.
لكن ـ ويا للمصادفة ـ سنجلس بالقرب من مجموعة من الأشخاص. سنسمعهم يناقشون ما يجري. تتعالى أصواتهم، يضحكون، يشتمون، يمدحون، فيما نحن نسترق النظر إليهم باشمئزاز. هذا الشعور الذي سيدفعنا بعد وقتٍ قليل للخروج، تاركين خلفنا أحاديث منفّرة... ومنفضة ملئية بأعقاب السجائر.
هربنا من بؤسنا. تصافحنا وافترقنا. لا أدري بماذا كان يفكّر صديقي عندما خرجنا. لكن، مع ذلك، يمكنني أن أخمّن أنه يفكّر مثلي. بأننا، نحن السوريين، بتنا نعرف من وجوهنا اليائسة.
لا شيء جديداً في ذلك.
قبل أيّام، استيقظت على «زعيق» المنبّه. نظرت إلى «الحدث» الذي كنت قد دوّنته على روزنامة هاتفي الذكي، كي أتذّكر، فإذ بي أقع على المفاجأة: لقد انتهت صلاحية إقامتي. عندها، توجهت إلى مبنى الأمن العام، وقد وجدت أن هناك كثيرين قد استيقظوا قبلي ووجدوا أن صلاحية إقاماتهم قد انتهت وعليهم تجديدها. وجدتّهم قبلي يتلقّون الشتائم. لم يكن غريباً بالنسبة لي أن أسمع عناصر الأمن العام يرفعون أصواتهم بوجه المنتظرين هناك. ولكن الغريب أن أسمع أحدهم يقول «(...) إخت اللي جابكن على هالبلد». والأغرب أن ترى عنصراً آخر يصفع أحد الواقفين على رقبته لمجرد أنه قال لـ»الدركيّة»: «عملي معروف مشّينا يا إختي... عنا شغل». أتته الصفعة مباغتة من الخلف، لجملة عابرة. عندها، لم يجد أمامه سوى القول «ما رح جدّد وراقي، أنا ساكن بصبرا وإذا بدكن الحقوني لهونيك»، قبل أن يفرّ هارباً من الأعين المتطفّلة.
يحدث ذلك منذ اندلاع الأزمة في سوريا، مطلع عام 2011. هذه الأزمة التي هجّرت السوريين إلى دول عدّة، منها تركيا والأردن ومصر ولبنان ودول غربية أيضاً. في جميع هذه الدول، نسمع عن حالات اضطهاد واعتقال ومتاجرة وممارسات للعنصرية والعرقية بحق هؤلاء النازحين. لكن، ليس بقدر ما نسمع عنه في لبنان. هنا، الواقع أكثر سوء، وقد يكون ذلك نتيجة العلاقات السياسية التاريخية والعلاقة الجغرافية وما يدور، على الأرض من نزاع ومن يشارك فيه.
فقط في لبنان، يوقفك أشخاص مجهولون. يطلبون منك أوراقك الثبوتية، بذريعة أنهم مخابرات أو عناصر أمن. وما إن تخرج محفظتك من جيبك، حتى يسحبونها من يدك مع كامل محتوياتها ويمشون، من دون أن تستطيع فعل شيء.
فقط في لبنان، السجون تعجّ بالسوريين بتهم لا تكاد تتخطى «ضياع ورقة ثبوتية» أو العثور في شريط بحث الإنترنت على كلمة تشير لطرف من أطراف النزاع أو صورة تشير إلى التديّن، أو حتى شكل «لحيتك».
يقول ف.م: «جئت وزوجتي من حلب، ولم أتنبّه إلى أن لحيتي باتت طويلة بعض الشيء، فالهموم تملأ رأسي، وكان همي أن أنجو بزوجتي وابني من الحرب، وحين وصلنا إلى الحدود اللبنانية، اشتبهوا بي واحتجزوني أسبوعاً كاملاً، فيما زوجتي وابني ينتظرانني على الحدود بين سورية ولبنان».
لا يختلف المشهد كثيراً عند أصحاب الشركات والمحال التجارية، الذين باتوا لا يخافون من احتكار المواطن السوري، وأحياناً «أكل تعبه كاملاً».
يقول ج.هـ: «عملت لديه شهراً كاملاً. وكنت قد اتفقت معه على معاش قدره 400 دولار أميركي، وحين أكملت الشهر عنده لم يعطني سوى 200 دولار، بحجة أن الأشغال ضعيفة ولا توجد سياحة في البلد». ويتساءل بلهجة ساخرة: «لا أدري ما علاقتي بالسياحة وما علاقة السواح بمرتبي؟!».
باختصار، بات المواطن السوري في لبنان «مميّزاً»، حيث يمكنك أن تعرفه من بين الجنسيات الأخرى بسهولة. فالمواطن السوري بات يعرف من وجهه البائس. قد يكون من الجيد أن تكون مميزاً، ولكن من الفظيع أن يكون هذا التميّز نتيجة العقول التي تحتفظ بداخلها بصور للجيش السوري بقيادة «المرحوم» رستم غزالة الذي عانوا منه لسنين.
عزيزي اللبناني، أحبّ أن أفيدك بمعلومة قد تجهلها. نحن تركنا سوريا وأقمنا هنا هرباً من أمثال رستم غزالة الموجودين بكثرة. أنت عانيت يوماً من رستم واحد، إلا أننا نعاني من الآلاف في ديارنا.