ثمة حرب تجري بموازة الحرب في سوريا. حرب اغتيال التفاصيل الصغيرة. لست أدري حجم الوقت الذي يحتاج إليه «طاحون الدم»، حتى يصبح موت الإنسان تفصيلاً هامشياً يضاف إلى الأعداد، حتى يصير تدمير «جنى العمر» من بيت أو دكان، تفصيلاً آخر، أو ما هو الوقت الكافي كي يتحول ركام إرث تاريخي عريق، إلى مجرد سطر في جريدة، أو خبر يضيع في زحمة الأخبار التي تشبه هي الأخرى طاحوناً يهرس عقولنا وذاكراتنا. تضيع التفاصيل في الازدحام الشديد، وينصرف الاهتمام نحو النتائج الكبرى.
قبل أن يتحول كل شيء في النهاية إلى أرقام صماء. الضحايا، الجرحى، المصابون، البيوت المدمرة، الآثار، وكل شيء. هناك من يصر على استحضار التفاصيل الصغيرة. لعل في هذا ما يبقي صلة بأشياء الحياة والمعنى، ويستخلص من قلب فوضى الخراب حكاية تروى، ونصغي إليها، طالما يتعذر علينا فهم ما الذي تعنيه الأرقام الكلية والخلاصات. وطالما أن الطاحون ما زال يعمل بهمة عالية، والجراح تتكاثر، والحرب مستمرة، ففي التفاصيل أحياناً برد مؤلم.

ثمة أشياء لا يمكن أن نقولها إلا مرة واحدة
ولا نحسن إعادة قولها أبداً


التفصيل الذي أتحدث عنه هو مكتبة، أو مكتبات. مكتبات احتوتها البيوت. عشرات أو مئات، وربما بضعة كتب اصطفاها هذا أو ذاك، لتسكن بين يديه حيناً، وعلى رف صغير غالب الأحيان. وفي الحالين: بين يديه، أو على مرمى بصره، فإنها مثّلت جزءاً من ذاكرته. أصدق اليوم من يزعم بأنها كل ذاكرته. وأصدق أن هذا ما يريد العيش فيه، ما دامت الحيوات الأخرى غير ممكنة... «كان هذا الكتاب لدي. أنصحك بقراءته». قال لي وهو ينظر إلى كتاب اقتنيته: «للمناسبة وضعت بعض الهوامش على صفحاته بقلم الرصاص. أنا لم أستطع أبداً التخلي عن عادة وضع الهوامش على صفحات الكتب التي أقرأها. هي عادة سيئة كما كان يقول بعض أصدقائي». لا تعرف إن كان توقف لأن قصته عن وضع الهوامش على أطراف الصفحات، لا تثير نقاشاً، أو لعلها لا تستحق أن تروى أصلاً، أم أنه توقف لأنه تذكر شيئاً آخر. قلت له إني أضع الهوامش على صفحات الكتب، كما أرسم خطوطاً تحت العبارات التي تستوقفني. بدا كمن عاد إلى الوعي من غيبوبة صغيرة، لمحت بريقاً في عينيه، قبل أن يبدأ دفق حكايته عن الكتب، وتفاصيلها الصغيرة، شعرت بأنه يعيد تشكيل محتويات مكتبته، يحفظ أسماء الكتب عن ظهر قلب، يحكي عبارات منها، ويستذكر بعض الهوامش التي خطها، تعليقاً أو تقريظاً لفكرة أو لمجموعة أسطر.

لست أدري حجم الوقت الذي يحتاج
إليه «طاحون الدم» كي يصبح موت الإنسان تفصيلاً هامشياً


كنت أعرف بعض الكتب التي يتحدث عنها. خيل إلي أنه يتحدث عن كتب أخرى. لعله أرادها هكذا أو لعلها أخذت شكلاً آخر بعدما فقدها. وعندما وصل الكلام إلى مخطوطته اليتيمة. مجموعته الشعرية الأولى، تحول البريق في عينيه إلى دموع. لم يكن يذكر شيئاً منها. بضع نتف مشوشة، وتشبه صفحات كتاب ممزق، كلمة من هنا، وأخرى من هناك. حسناً أنني ابتلعت كلمات تطالبه بإعادة كتابتها من جديد. ثمة أشياء لا يمكن أن نقولها إلا مرة واحدة. ولا نحسن إعادة قولها أبداً.
كنت أعرف جزءاً يسيراً من تفاصيل الحكاية التي أوصلته هائماً إلى شارع الحمراء في بيروت. كنت أعرف أن بيته قد سوي بالأرض. لمرات كثيرة، التقينا. وكنت دائماً أرغب في معرفة بقية القصة. لم يحكِ شيئاً عن البيت المدمر، ولا عن نافذة مسيّجة بـ«ياسمين بلدي»، ولا عن درج عتيق يتحدث عنه أصدقاؤه بشغف. كلما حكى، تذكر كتبه، تفاصيله الصغيرة.