بالكاد ينجو منتقدو جبران خليل جبران، العرب تحديداً، من سماع العبارة الجاهزة إياها: انظروا إلى تأثيره في الغرب، اقرأوا عن كتبه التي بيعت بملايين النسخ. سيلجأ أصحاب هذه الجملة، بالطبع، إلى «النبي» (1923)، ثالث كتبه الإنكليزية الثمانية. جعل هذا الكتاب جبران اسماً مربحاً لدى الناشرين، حيث باع أكثر من 9 ملايين نسخة بطبعاته الأميركية فقط. هل كان يحلم بهذا العدد الأخضر؟ كان يحلم بأكثر من ذلك حين بدأ بكتابته عام 1919، ودفع حياته ثمناً لهذا الحلم. هذه ربما خلاصة مقال «حافز النبي ــ ظاهرة جبران خليل جبران» الذي نشرته جوان أكوسيلا في الـ New Yorker عام 2008. يصلح «ما وراء أسطورة النبي» عنواناً للمقال. يقدم قراءة لحياة جبران انطلاقاً من «النبي»، وتقاطع وقائعها مع أحداثه وشخوصه. ما لم تقله أكوسيلا حرفياً، انّ جبران ليس فتى بشري الذي أدهش الغرب بأفكاره. يجب الاعتراف بهذا ولو كان الأمر يتطلّب عقلانية تضاهي مثالية أفكاره.
الفترة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ «النبي» تستدعي قراءة للكتاب وأفكاره، أو لظاهرة جبران، مغايرة لتلك التي انتشرت في العشرينيات، وإن كانت النتيجة لا تتقاطع مع حلم جبران الكبير، ولا مع اقتناع قرائه بهذا الإعجاب الغربي. تتسلل أكوسيلا إلى ظاهرة «النبي» منذ أن بدأ جبران يرى نفسه كـ«نبي صغير»، نزولاً عند التسمية التي أطلقها عليه أحد أساتذته. كان جبران أحد الشباب الذين اهتم الفوتوغرافي والناشر فريد هولاند داي بتصويرهم، وخصوصاً أولئك الذين يحملون جذوراً آسيوية أو عربية أو أفريقية. وكأنه بقي منذ تلك اللحظة مثبتاً بذلك الكادر الإكزوتيكي. وربما عليه فقط، صار يعوّل المدافعون عن جبران، حين يلقون بأهمية أدبه على عين القارئ الغربي. إنه إكزوتيكي أميركا، وهذا لا يكفي طبعاً لأن يجعل من «النبي» كتاباً كونياً.
في الكتاب، يلتقي «المصطفى» بشخصيات عدة الأم، ورجل غني، وألميترا التي يتفق كثيرون على أنها ماري هسكل، وأن المصطفى هو جبران نفسه. لاقت أقسام الكتاب الـ 26، التي تتناول تيمات الحياة الأساسية؛ الأولاد، الزواج، الحب، العمل، الجمال، الموت، الجريمة والعقاب، المال، رواجاً، في الأعراس والجنازات والمناسبات الاجتماعية حيث لا يزال يقرأ منها حتى الآن.

شُبِّه بالكاتب البرازيلي باولو كويلو لناحية الصخب العالمي
إنها تجيب عن أسئلة كبيرة بسلاسة وبسهولة للقراء الذين لا يودّون سماع إلا الأجوبة المطمئنة. كان يقول لماري هسكل إنّ المسيح يزوره في الأحلام، وإنه اكتشف نظرية النسبية قبل آينشتاين، لكنه لم يسجلها. كانت يوميات هسكل هي البوابة لهذه المعلومات الدفينة عن مهاجر بشري. حررت هسكل ونقّحت كتبه الإنكليزية، وكتبت بعض أفكاره بنفسها. كانت تؤمن بموهبته، وتصدق كل ما يقوله حتى حين ادعى أنه ابن عائلة أرستقراطية لبنانية.
بعد صدور «النبي»، لم تطفئ مئات الرسائل التي تلقاها من المعجبين هواجسه، ولم تشبع رغبته بالشهرة والعظمة. لذا لم تكن النهاية غريبة؛ انعزل في غرفته في نيويورك يشرب العرق إلى أن رحل عام 1931. أما «يسوع ابن الإنسان» الذي أشاد به النقاد الصحافيون، فلم توله المجلات الأدبية اهتماماً، إلى درجة التخلي. وهذه ليست مفاجأة. في المقال نقرأ أنّ الكتّاب الشباب راحوا، في بداية العشرينيات، يهربون من الخلطة الوجدانية المثالية لكتابات جبران، والوقع الوعظي لكلماته. «كتابه الوعظي يجعل من جبران أقرب إلى الكاتب البرازيلي باولو كويلو لناحية الصخب العالمي، والمبيعات القياسية»، تضيف أكوسيلا. مؤلف لم يحقق إلا العذاب لصاحبه، رغم الإنكار المتشدد لهذه الحقيقة من قبل محبيه.