مدينٌ أنا لديواني الأول «قصائد أليفة» بالحضور في عالم الأدب والثقافة على نحو عام، فهو من شكلني وأسّسني وأعطاني الهوية الجمالية، فكان لي بمثابة جواز للعبور إلى عالم متخيّل وحالم وغرائبي، كنت أحلم بأن أدخل اليه وأحقق رغبتي وهاجسي في الكتابة. إنه عالم الشعر والخيال والتحليق نحو المرئي والمستور، عالم اليومي والسحري، المضمر والعلني، عالم الدلالات والإشارات، عالم الموحيات والألغاز والتأمل، عالم السفر في كيمياء الروح، وسيمياء الحياة والكون. ذلك ما كنت أحلم به، ساعياً بكل جوارحي إلى ولوج تلك الغابة المقدسة، غابة الشغف العالي وغابة الفناء الذاتي أيضاً، التي أسميها الشعر. لم يكن سهلاً حينذاك أن يكون بين العمالقة، عمالقة الشعر العربي، مثل السياب والبياتي وبلند ونازك الملائكة، ومثل محمود البريكان والنواب ورشدي العامل وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي ويوسف الصايغ وآخرين من شعراء الخمسينيات الرواد وبعض الأسماء الستينية البارزة آنذاك، إنْ لم تكن تمتلك العدة كاملة، وأن تكون متفوّقاً ولديك شيء تقوله، شيء مختلف ومغاير ومفارق للعادي وغير نمطي وغير مطروح في الساحة الشعرية العراقية على الأقل.
من هنا كانت التجربة الأولى صعبة، تجربة التمرين على الشعر والعروض والقافية، التمرين على زوايا الطرح الجمالية الجديدة، فأنت في بلد الحداثة الشعرية، وبلد الشعر عامة. العراق بلاد شاعرية، موئل الشعراء العظام الأوائل، وعليك أن تنتبه وتحترس وتتوخى الحيطة والحذر من الخطأ والمزالق والتعثر، فليكن التعثر والتلكؤ والبهوت في البدايات، بدايات القرزمة الشعرية، لكنْ حين تتقدم في الصنيع عليك التحسّب والتأنّي وحسب الخطوة ووزن ما تقوله بميزان الذهب.
لقد عانيتُ كثيراً مثلي مثل غيري لكي أصل إلى النشر. كتبت الكثير من الشعر، الكلاسيكي بعموده على السماع، وكتبت الأغنية، حتى وصلت إلى كتابة القصيدة الموزونة المعروفة بقصيدة التفعيلة، وهي تسمية غير دقيقة، في عالم كبير هو عالم الشعرالعربي الحديث، الذي كتبه السياب وأدونيس ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش، لنختصره بتسمية «قصيدة التفعيلة». ما أضيق هذه التسمية على عالم واسع ومتشابك ومتنوع هو الشعر العربي الحديث، شعر الحداثة الذي وصل الى العالمية نتيجة حداثته وأثره الفني وطرائقه الأسلوبية وأشكاله التعبيرية ونُدرته النغمية، تلك القصيدة الموزونة بميزان دقيق ذي قياس مموسق ومدوزن، نأتي لنختزلها بـ «قصيدة التفعيلة». إذاً بعد كل هذا العمل من التجارب الموسيقية وصلت القصيدة الحديثة إلى ضفاف قصيدة النثر لتجرّبها وتدشّنها وتدخل مرحلة تاريخية جديدة، هنا أيضاً سعيت كغيري إلى كتابتها، وولجت ذلك التحوّل، لأتذوق طعم تجربته الحرة، حتى قطعت شوطاً به، فكتبتها متواترة، دائرية، تحمل صيغة الكتلة المكتوبة على غرار مسرد نثري، مهيمنٍ وآخذٍ بكل مساحة الصفحة.
حين ولجت عالم قصيدة النثر، كنت لم أنشر بعد حرفاً واحداً من الشعر، لا نثراً ولا وزناً، حتى صُقلت جيداً، فنشرتُ قصيدتي الأولى في صحيفة يسارية. والمعنيون بالأمر وهم أدباء وشعراء لم ينشروا القصيدة الأولى لي، إلا بعد عذاب ومعاناة وطول انتظار مع التجريب والتمرين الجمالي، حتى نشروا تلك القصيدة التي كانت فاتحة فأل حسن عليّ مثل ديواني الأول «قصائد أليفة» الذي صدر عام 1978.

هيّأني هذا الديوان لعالم الشعر وأعطاني حجة قوية للمقارعة
والدفاع والمنابزة مع من سيقفون في وجه كلماتي

هذا الديوان هو الذي هيّأني لعالم الشعر وأعطاني حجة قوية للمقارعة والدفاع والمنابزة مع من هم سيقفون في وجه كلماتي، لكن الديوان لاقى ترحيباً وتأييداً واستقبالاً من قبل بعض النقاد والقراء، وشهرته في لبنان كانت أكبر، لأني كنت مُضيّقاً عليّ من قبل السلطة الحاكمة، مثلي مثل غيري من الشعراء اليساريين. صدر الديوان عن وزارة الثقافة العراقية وكان من المفترض أن تهتم به الميديا الثقافية الرسمية، ولكنها تجاهلته تجاهلاً تاماً، الأمر بالنسبة إليّ كان أكثر من طبيعي، فالنظام كان يروّج لتابعيه ومطبّليه ومرتزقته، وهذه مسألة بديهية، علينا أخذها بالاعتبار في بلد غير ديمقراطي، أي ديكتاتوري مثل العراق.
كان الصراع قد بدأ بين البعث واليسار، وهو صراع تاريخي يمتد الى أربعينات القرن المنصرم وحتى اللحظة، صراع بين المنظومة الفكرية لفهد مؤسس «الحزب الشيوعي العراقي»، والمنظومة العقائدية لميشيل عفلق مؤسس «البعث»، بين الجناح القومي والجناح الأممي. ولكوني ذا نزعة أممية، كنت قد هيأت نفسي للرحيل، وترك العراق نهائياً، بعد حصار ومطاردة وملاحقة ليس المجال الآن لسرد تفاصيلها، آخذاً معي نسخاً معدودة من ديواني «قصائد أليفة» كان الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي يعمل مستشاراً في وزارة الثقافة قد وهبني إياها.
تنبغي الإشارة هنا الى أن من وافق على طبع ديواني الأول ونشره في وزارة الثقافة هو الشاعر سامي مهدي، وكان خبير الديوان الشاعر الفلسطيني المقيم في العراق خالد علي مصطفى، وكلاهما شاعر وناقد ينتمي الى جيل الستينيات العراقي، الجيل المتعدّد الهويات والمشارب والمنابع الفكرية، ولكي يؤدي الشاعر خالد علي مصطفى واجبه الإداري والمهني، والسياسي أيضاً، نوّه لي ذات يوم، حين كنت جالساً في اتحاد الأدباء أتساقى المُدام مع الندماء، فاجأني وهو يناديني بلطفه المعهود بأن لديه شيئاً يودّ أن يخبرني به على حدة بعيداً عن دائرة الأصدقاء، فامتثلت لطلبه، لأتبيّن لحظتها بأنه هو خبير الديوان. إذاً محور التنويه كان يتلخص بجملة شعرية وردت هكذا «صخور العراق الحزينة»! فبادرني لديك في الديوان هذه الجملة وأنا خبير الديوان ولكي يمر الديوان بسلام ويُطبع عليك أنْ تغيّر من صيغة هذه الصياغة قائلاً لي: «صخور العراق ليست حزينة» فأرجو تغييرها، فهي كلمة في النهاية قد تضر ولا تنفع وقد تطيح مجمل مسار الديوان ويمنع، فما هو رأيك؟ مرّتْ لحظات من التفكير حتى غيّرتها بموافقة منه إلى «صخور العراق البهية»!
رضخت لطلب الشاعر الخبير الذي كان انساناً دمثاً ومتفكهاً، ولم أحمّل المسألة أكثر من ذلك، لأن الديوان كان يحمل دلالاتٍ ورموزاً وإشارات محتجبة وشفرات نائمة في طيات النسيج الصوري والبلاغي، هذا عدا المعاني المندغمة تحت طبقات من التورية والتلغيز والتأويل الشبكي المنتسج في نسيج «قصائد أليفة»، لهذا لم أتوقف أمام هذه القضية كثيراً، لكون النشر كان صعباً جداً أمام قصيدة، فكيف بديوانٍ كامل كان يحمل ما يحمل من استعارات ومجازات وتهويمات وإيحاءات كثيرة.
شهرة الديوان أتتْ بعد رحيلي عن العراق. حينها لم أكن أعلم بهذا الانتشار له بين الأجيال اللاحقة، وحتى ممن تبقى من جيل السبعينيات بكل أطيافه السياسية في تلك الفترة القلقة من تاريخ العراق السياسي، حيث صعود الطاغية الطامح الى العسكرة والمقلق بحضوره فئات الشعب العراقي. ذاك الذي أدخلنا في أتون حرب استمرت لثماني سنوات، قضى من خلالها على كل أمل وشعور بمستقبل آمن للعراق، وبخاصة لدى الفئة الفتية التي كانت تتعلم في الجامعات وتحلم بعراق مدني وغني. تلك الحرب وأجواء الدمار والخراب الاقتصادي، ربما هي التي دفعت الشبيبة الشعرية آنذاك والقراء إلى قراءة «قصائد أليفة» وغيرها من دواوين الشعراء الرافضين للحرب والديكتاتورية، مبتعدين بذلك عن القصائد الحربية المنادية بالعسكرتاريا، تلك القصائد التي كانت تزيد من وتيرة الحرب كونها وقودها، عبر تمجيدها لتلك الحرب المدمّرة ببلاغة عسكرية، قوامها لغة الدم والسلاح والبارود والافتداء بالكائن البشري.
أما السمة التي حصلتُ عليها من خلال هذا الديوان، وغدت بمثابة هوية لي، فهو اسمه الذي سهّل على الناقد أن ينعت صاحبه بشتى التسميات التي تتصادى مع عنوان الديوان، والتي تنتمي الى هذه الأجواء الحميمة، فمنهم من وصفني بالشاعر الأليف، أو شاعر الألفة، أو شاعر الأشياء الأليفة، أو شاعر المألوف والتفاصيل، أو شاعر المنسيات الأليفة وغيرها.