نابولي | يحين موعد النشرة الرياضية الرئيسية لإحدى القنوات العربية المتخصصة، فتبدأ بعرض ملخص لمباريات وأهداف البطولات الوطنية الأوروبية. يحجز الدوري الإنكليزي المُمتاز و»الليغا» الإسبانية مقدّمة النشرة، تليهما «البوندسليغا» الألمانية والدوري الفرنسي، وخصوصاً إذا كان باريس سان جيرمان هو المعني. وبعد كل هؤلاء يأتي دور الدوري الإيطالي.هذا الترتيب يعكس أمراً واحداً هو المزج بين ما يرغب فيه المشاهد من جهة، وقوة البطولات بحسب ترتيبها، ما يعكس أزمة يعيشها الدوري الإيطالي. أزمةٌ ومعاناة تؤكدها ميزانيّات الموسم الماضي التي صدرت أخيراً، حيث تُشير الأرقام إلى أن ديون الـ»سيري أ» بلغت ما مجموعه ١،٧ مليار يورو. ويتصدّر إنتر ميلانو القائمة بـ ٣٦٠ مليوناً، يليه جاره ميلان بـ ٢٤٤ مليوناً، بينما جاء يوفنتوس ثالثاً بـ ٢٣٨ مليوناً، وروما رابعاً بـ ١٥٨ مليون يورو. أما أوضاع لاتسيو ونابولي وفيورنتينا فهي أقلّ سوءاً. واللافت أن مجموع الإيرادات في الموسم الماضي بلغ ١،٧ مليار يورو، فيما تخطّت التكاليف ٢،٣ مليار، فإنتر ميلانو مثلاً يعاني عجزاً بقيمة ١٠٢ مليون يورو، ويتبعه روما بواقع ٣٨،٨ مليوناً، فيما يحل ميلان خلفهما بعجزٍ بلغ ١٥،٧ مليوناً، ولم يتخطّ عجز «اليوفي» حاجز السبعة ملايين يورو.

هذه الأرقام، على اختلافها، تحكمها ظروف عدة، إذ إن يوفنتوس مثلاً لا يزال يدفع تكاليف بناء ملعبه، وإلا لكانت أموره المالية أفضل، بينما لا تتضمن ميزانيّة روما السيولة التي ضخّها مالكه، الأميركي ــ الإيطالي جيمس بالوتا في رأس المال، لذا تبدو أموره مقلقة. أما قطبا ميلانو، فالأول محكوم بمزاجيّة مالكه سيلفيو برلوسكوني الذي يرفض بيع النادي ولا يجد سبيلاً للتقليص من الخسائر سوى عبر بيع اللاعبين وجلب آخرين مجاناً أو وفق نظام الإعارة، فيما يعيش جاره إنتر حالة تخبّط مع مالكه الأندونيسي إيريك ثوهير الذي لم يدفع شيئاً من ماله الخاص حتى الآن، بل يعتمد على القروض، التي يجب دفعها في 2019. ويتوقع أن تزداد ميزانية ميلان وإنتر سوءاً في ظل عدم وجود أي بوادر لانتشال الفريقين من مشاكلهما.

أسباب الأزمة

أسباب هذه الأزمة التي تعصف بالكرة الإيطالية ليست وليدة اليوم، بل تعود حتى إلى زمن السيطرة شبه المطلقة للفرق الإيطالية على أوروبا في تسعينيات القرن الماضي. وقتذاك، كانت إيطاليا تعيش أبهى أيامها الكروية وكانت الساحرة المستديرة قد بدأت تتحول تدريجاً من مجرد رياضة إلى صناعة. خلال تلك الفترة، كانت الأندية الإيطالية تجني أرباحاً هائلة، لكن بدل استثمارها في مشاريع مربحة على المدى الطويل، انشغلت بالقيام بصفقات خيالية ودفع رواتب مبالغ فيها لنجوم اللعبة. وهذه الأندية أبقت على ملاعبها القديمة التصميم التي تملكها البلديات بدل بناء ملاعبها الخاصة والعصرية التي تؤمن لها مداخيل إضافية من خلال عائدات المباريات والأنشطة التجارية في المساحات المُلحقة بالملعب كالمطاعم ومراكز التسوّق وغيرها. كذلك أهملت التسويق لبطولتها خارجياً على غرار الدوري الإنكليزي الممتاز مثلاً واكتفت بالسوق المحليّة، ما كلّفها الكثير لاحقاً. فعلى سبيل المثال، بلغ مجموع إيرادات أول أربعة أندية إنكليزية، صاحبة أعلى مداخيل تجاريّة خارجيّة في الموسم قبل الماضي، ٥٦٨ مليون يورو، في حين حققت نظيراتها في إيطاليا حوالى ٢٧١ مليون يورو فقط.

نتيجة التخطيط السيئ

هذا التخطيط السيئ للأندية الإيطالية أفقدها مصادر تمويل متنوعة كانت ستضمن لها الاستمرارية والقدرة على مقارعة ومواكبة كبار أوروبا. ومع مرور الوقت، تسبب هذا الأمر برحيل النجوم عن «الجنة الإيطالية» بسبب الإغراءات المالية الخارجية. هجرة النجوم هذه، أفقدت الدوري الإيطالي الكثير من بريقه، فتراجعت معدلات مشاهدته مقارنة بالبطولات الأوروبيّة الكبرى، اذ ان «البريميير ليغ» الإنكليزي مثلاً، يحقق إيرادات من النقل التلفزيوني تفوق بنسبة ٢٢٪ تلك التي يُحققها «الكالتشو».

المعاناة المالية
في الكرة الإيطالية تعود الى تسعينيات
القرن الماضي

وهذه العائدات تُشكل ٣٥٪ فقط من إجمالي مداخيل الأندية الإنكليزية، بينما تُمثّل حوالى ٥٠٪ من إجمالي إيرادات نظيراتها في إيطاليا وهو رقم يعكس محدوديّة مصادر تمويلها. وحتى في هذه الجزئية، فإن طريقة توزيع هذه العائدات ليست صائبة، إذ بلغ الفارق بين الأكثر والأقل تقاضياً أي يوفنتوس وساسوولو حوالى ٧٦ مليون يورو. وهذه الفوارق الشاسعة من شأنها زيادة الهوّة بين فرق الطليعة ومنافسيها، ما ينعكس سلباً على المستوى الفنيّ ويقلل من حجم الإثارة في المباريات، ففي أكثر بطولات العالم إثارة أي إنكلترا، يتم توزيع العائدات بشكل عادل ولا يبلغ الفارق بين الأول والأخير أكثر من ١٥ مليون جنيه استرليني.
لكن رغم الكمّ الهائل من المشاكل والصعوبات الماليّة التي تُعانيها الكرة الإيطالية، فإن النهوض بها ليس أمراً مستحيلاً إلا أنه يحتاج إلى بضع سنوات، اذ ان يوفنتوس خطا خطوات ناجحة بدأت ببناء ملعبٍ جديد، وروما تحت الإدارة الأميركية ــ الإيطالية، يسير على الطريق الصحيح، وخصوصاً مع قرب امتلاكه لملعبه الخاص. كل هذه الأمثلة والبوادر الإيجابيّة تبقى مشروطة بعدة أمور، أولها تحقيق نتائج مميزة قارياً في المواسم الثلاثة المقبلة لاسترداد المركز الرابع المؤهل إلى دوري الأبطال. ثانيها، الانفتاح على الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبيّة وتحسين البنية التحتية وتنويع مصادر التمويل وصرف الأموال بطريقة مدروسة. أما ثالثها فهو عودة قطبي ميلانو، بما يمثلانه تاريخياً وجماهيرياً، إلى الواجهة لتكتمل حينها العناصر المطلوبة، علّنا نرى من جديد «جنّة كرة القدم» التي حدّثنا عنها «الأسطورة» دييغو أرماندو مارادونا في يوم من الأيام.