مخدة بيروت ليست محشوة بريش النعام دائماً؛ بخلاف الصور السياحية عن أبراج الواجهة البحرية الملزمة للناظر إليها بمدّ عنقه للإحاطة بتطاولها، تقود القدمان الباحث عن معنى ملموس للعاصمة «الكوزموبوليتية» إلى مبان مصنّفة نجمتين فما دون، أو حتى غير مشمولة في فضاء النجوم، «مخبأة» في الأحياء القديمة، وذات أبواب مفتوحة للزائرين، بحيث تقدّم لهم المبيت رخيص التكلفة.
يحتل أحد هذه الأماكن، ويدعى «بانسيون النزيه»، طبقتين من مبنى كائن بالصيفي ومشغول من مستأجرين آخرين في طبقاته العلوية، ويمدّ خدماته، التي لا تشمل سوى المنامة، على غرف عشر منقسمة بين مفردة ومزدوجة ومشتركة. هناك، يخيّل إلينا أن النزيل الأجنبي سيفتتن حتماً حين يسمع قرع أجراس كنيسة مار جرجس في اللحظة التي ينطلق فيها الآذان من جامع محمد الأمين (يا للمصادفة!)، لكن، الأخير المسكين والجاهل ببواطن الأمور سيبقى عليه أن يفك لغز «بيت الكتائب» المقابل للبناء، إذ لا تدل الدلائل على أن ثمة ما يدور خلف جدران المقر الحزبي! نفيق من خيالنا على «خبريات» مفيدة أن جلّ زبائن «البانسيون» هم من فئة الشباب الأوروبي (الفرنسيون والألمان خصوصاً) والأميركي والآسيوي (الكوريون والصينيون واليابانيون)، وأن من النادر أن يشهد النزل على حضور العرب أو الإيرانيين. وبعد سماع معزوفة «النق» اللبنانية المكررة عن أحوال السياحة المتراجعة جراء الحرب بسوريا، إذ كانت الغالبية تحضر إلى لبنان ضمن جولة تشمل بيروت ودمشق وعمّان، نعرف أنه يمكن استئجار سرير في «البانسيون» بتكلفة 17 دولاراً أميركياً لليلة، وذلك ضمن غرفة تضمّ خمس أسرة، فيما البدل يرتفع تدريجياً بحسب حجم السرير.
نجول بعينين متفحصتين على تفاصيل «البانسيون»، حيث يحوي «اللوبي» أو ما يشبهه مقاعد جلدية بنية مريحة، ومكتبة متواضعة؛ نلحظ بين متعلّقاتها رواية للكاتب الانكليزي ايان ماك ايوان وكتباً تعلّم اللغات. تتسلّل الابتسامة إلى الثغر حين نقرأ الإعلان المفيد أنه يحظر على النزلاء استقبال الزائرين في الغرف. تقودنا «حشريتنا» بعد القراءة الى الآتي: ان القاعدة العامة تنص على الحظر، لكن يشي بعض الحالات، بأن ثنائياً لبنانياً يحضر في التوقيت عينه، ويحجز كل زوج غرفة مستقلة، لكن يستشف من سير أمورهما أن الغرام ناشب بينهما. إلا أن المولج بالإشراف على المكان يطبق «فضيلة» غض البصر بحقهما! واستطراداً، نعلم أن بعض اللبنانيات يقضي بضع ليال في المكان، ويشدد على ضرورة إخفاء هويته لأمر عائد إلى خلافات زوجية. ومن تداعيات الأزمة السورية، و»تضييق» الحكومة اللبنانية على حركة السوريين القادمين إلى لبنان، لاحظ المشرفون كثرة الطلبات على وصولات الاقامات الوهمية في «البانسيون» مقابل دفع بدل مخفض بدون المبيت.

بين بعلبك والمخيمات

بعد التدقيق في الخريطة المعلّقة على الجدار، نسأل عن اهتمامات النزلاء الأجانب السياحية، فنعرف أن الغالبية تأتي محملة بعناوين، مثل: قلعة بعلبك ومعلم مليتا وطرابلس، من دون إغفال توقها الى السهر في الجميزة القريبة، أو التعرّف إلى الحمرا، وأن بعض الألمان والنروجيين والدنماركيين خصوصاً يسأل عن كيفية الوصول إلى مخيّم شاتيلا بهدف تقديم المساعدات للاجئين الفلسطينيين. من بين المواقف المضحكة ما يروى عن نزيل أميركي جاء إبّان بداية الأزمة السورية وراح يستفسر عن الطريقة التي تمكنه من مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد في عمل انساني هادف إلى وقف مسلسل الموت، وأن الأخير غادر «البانسيون» باتجاه الحدود اللبنانية ـ السورية (المصنع)!
لا نتفاجأ حين يحكي محدّثنا عن
مدى تقتير النزلاء على أنفسهم

أحد الفنادق يعلّم نزلاءه من
الأجانب اللهجة اللبنانية العامية
لا نتفاجأ حين يشرح لنا محدّثنا، الخبير بالسائحين ذوي الميزانيات المحدودة أو الرحالة الذين يسافرون من بقعة الى أخرى متخففين من الأحمال، عن مدى تقتير النزلاء على أنفسهم، بحيث لا ينفقون سوى القليل القليل، ويستخدمون وسائل النقل العامة، ومن بينها «الفان» رقم 4 لبلوغ المطار عند الرحيل، أو يمشون لكيلومترات طويلة في رحلة كشف المدينة، ويقنّنون في إعطاء أجسامهم الطعام، ويستفهمون عن المطاعم المتواضعة لتناول الوجبات. بحسبه، يقبل البعض دعوة أهالي البقاع المضيافين فيبقى في بعلبك عند زيارة القلعة بداعي توفير بدل «البانسيون» لليلة أو زوجين من الليالي، ويأتي مغتبطاً وشارحاً بإسهاب مغامرته في تدخين حشيشة الكيف فخر الصناعة الوطنية. وبحسبه أيضاً، يُشك في أمور الكثيرين، الذي يكرّرون زياراتهم إلى لبنان ويقيمون لفترات قصيرة أو طويلة فيه بحيث يتغلغلون في النواحي الشعبية خصوصاً بهدف جمع المشاهدات عن أحوال الناس ويسهبون في أسئلتهم عن العلامات التجارية التي يستخدمها المواطنون في مأكلهم وملبسهم!

كلّ جنسيات الأرض
على بعد خطوات من «النزيه» الذي يحتل مكانة متقدمة على لائحة مواقع السفر الغربية، يقبع فندق متكامل مصنّف بنجمتين، مسمّى بــ»حدائق الصيفي». تؤشر جلبة المكان إلى أن نسبة إشغال الغرف فيه مرتفعة، لكن الأمر لا يرتبط بشأن سياحي بحت، بل بمدرسة تعلّم الأجانب العامية. منذ 5 سنوات، نفضت عائلة الديراني الغبار عن بنايتين تراثيتين مهملتين، ونقلت المدرسة، التي تديرها، وذات الأصداء في صفوف الأجانب المقيمين بلبنان من الصيفي إلى شارع «باستور» بالجميزة، بعد تكاثف طلبات الطلاب تأمين الإقامة والطعام. مرّ على المكان، الذي يبلغه الزائر بعد نزول سلّم حجري محاط بـ»الغرافيتي» والرسوم ومدعم عند المدخل بموقف للدراجات، 15000 نزيل حتى اليوم؛ أقام معظمهم في الغرف الخمس عشرة بهدف تعلّم اللبنانية المحكية. شباب ومسنون، لكل منهم غاية في تعلّم اللغة، علماً أن انهاء الحلقة التعليمية يقابل بشهادة غير مصدقة بعد من وزارة التربية والتعليم العالي ويستدعي 8 أشهر ويؤهل لفهم الخطابات السياسية. ومن بين أهداف الإقامة الأخرى في المكان الفريد في محيطه، لناحية الخضرة التي تسمه في مشهد غير نمطي في «مدينة الباطون»، السياحة وتقديم الإغاثة للاجئين فيه على اختلاف جنسياتهم.
يتحدث نزيه الديراني عن الفندق بشغف، فيقول: «جاءت كل جنسيات الأرض الى هذا المكان، لأن الجاذب فيه لا يقتصر على الأسعار المنطقية لقاء المبيت أو الطعام في «قهوة ام نزيه» المتصلة به أو الترويح عن النفس بالحانة على سطحه بل في نزع الشعور بالغربة عن كل من تطأ قدماه هذه البوتقة، حيث تذوب الطوائف والأعراق والطبقات والجنسيات». يشرح الديراني أن «الشعبية» بمفهومه لا تتجاوز أمور الترتيب والنظافة والحفاظ على التراث، وأن الفكرة الكامنة خلف المشروع هي بثّ الشعور لدى الزائر بأنه في بيته، خصوصاً أن المؤسسة عائلية.
تبيّن الجولة على الردهة في «حدائق الصيفي» خصائص العمارة اللبنانية لناحيتي السقف المرتفع والأعمدة البارزة في الفضاء العام والمنتهية في جزئها العلوي عند أقواس شاهدة على تداخلات الزجاج والحديد المطروق، بعيداً عن التكلف، مع لمسات تزيين متمثلة في زوجين من ماكينات الخياطة الخشبية القديمة ورف يعرض أباريق نحاسية و»بانوه» مخترق بقصيدة عن الحب والثلج، فيما الغرف المطلة على جسر شارل حلو تتفاوت بين المفردة والمزدوجة والمشتركة والجناح، علماً أن أقلها تكلفة هو سرير في الغرفة المشتركة لقاء 18 دولاراً أميركياً. نودع الديراني في «ام نزيه» المتردد اسمه على ألسنة الشباب اللبناني أيضاً بزخم المعسل، ونيمّم حيث يصفق موج الشاطئ، وينبت بجوار المشاريع السياحية الفخمة بعض «البانسيونات»، لنفاجأ بمن ينصحنا بالعدول عن مسعانا، لأن وظيفة هذه الأمكنة كانت تحولت في ظلّ الوضع السياحي المأزوم إلى إيواء العائلات السورية النازحة أو العمالة الرخيصة بمؤسسات عين المريسة ومحيطها.